الغموض لا يصنع استقلالاً- معتصم حمادة
2015-10-24
مهّد الرئيس محمود عباس طويلاً لمفاجأته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ووصف المقربون منه، هذه المفاجأة المرتقبة بالقنبلة التي سيفجرها من على منبر المنظمة الدولية.
ولما أتى خطاب الرئيس عباس، في سياق سياسته المعهودة، يؤكد التزامه بالعملية السياسية، ويدعو الأطراف المعنية، وعلى الأخص إسرائيل والولايات المتحدة، لصون هذه العملية، وحمايتها، والعمل على توفير الظروف لاستئنافها، وفق شروطها الهابطة، جاءت المفاجأة [المفاجأة الحقيقية] وجاءت القنبلة [القنبلة الحقيقية] من الشارع الفلسطيني، من شبان فلسطين، لتقلب الطاولة في وجه القيادة الفلسطينية الرسمية، وفي وجه حكومة نتنياهو، وفي وجه جون كيري وإدارة واشنطن، ولتخلط الأوراق، وتخريط الحسابات، ولتدفع الكثيرين، وفي مقدمتهم، القيادة الرسمية، لإعادة التدقيق في سياستها، وفي خطابها، وفي كيفية تعاملها مع الجديد الفلسطيني، الذي وضع مجمل الحالة أمام منعطفات.
ولا تحتاج إلى كثير جهد لنبين أن نزول الشبان إلى الشارع، في مواجهة الاحتلال والاستيطان، جاء من خلف القيادة الرسمية [وهي التي اعتادت أن تتخذ قراراتها من خلف الهيئات الشرعية ومن خلف إرادة الشعب الفلسطيني]. كما جاء ضد إرادة القيادة الرسمية [وهي التي اعتادت أن تتخذ قراراتها وأن تصوغ سياستها بالضد من إرادة الشارع الفلسطيني وقواه السياسية الفاعلة]. وهو ما وضع القيادة الرسمية أمام خيارات، لا تستطيع أن تتجاهلها. هل تقف إلى جانب الحركة الشعبية في هبتها ضد الاحتلال والاستيطان؟ هل توفر لهذه الهبة الغطاء السياسي اللازم لحمايتها سياسياً، وقانونياً، واقتصادياً، لتعزز من صمود وفعالية الحركة الشعبية وقدرتها على التواصل والتحدي، ومجابهة الاحتلال والاستيطان؟ باختصار: هل ستنظر إلى هذه الحركة الجديدة على أنها مقدمة لحالة جديدة، تتطلب استراتيجية سياسية جديدة وبديلة، لتتحول إلى انتفاضة شعبية شاملة، تشق الطريق نحو عصيان وطني شامل على طريق حرب الاستقلال الوطني والخلاص من الاحتلال والاستيطان، أم أنها ستتعامل معها باعتبارها مجرد فورة غضب شبابي، تعمل على تنفيس احتقانها، ببضعة عمليات فردية، في القدس وفي أنحاء الضفة وفي مناطق الــ 48، يمكن استغلالها سياسياً، من موقع تكتيكي مجرد، وصولاً إلى تحسين نسبي لشروط استئناف المفاوضات، بالآليات والأسس العقيمة نفسها؟.
* * *
منذ خطابه في الأمم المتحدة، مروراً بتصريحاته التي ثلث ذلك، مازال الرئيس عباس يراوح مكانه، في السياسة، لم يغادر موقعه. ومازال رهانه على المفاوضات، ومازال يدعو إلى ما يسميها «المقاومة السلمية» [التي تجاوزتها الأحداث].
ولأنه لا يستطيع أن يستعيد خطاب الأمس بحذافيره، في ظل الصدامات في الشارع، وتزايد أعداد الشهداء، وارتفاع وتيرة القمع الوحشي لسلطات الاحتلال وميليشيات المستوطنين، لجأ الرئيس عباس إلى خطاب سياسي غامض، متعدد الأوجه، يترك لكل طرف أن يفسره كما يريد. التيار المتمسك بالمفاوضات سيرى أنه مازال ملتزماً هذه المفاوضات بشروطها وآلياتها المعهودة. والتيار الداعي إلى مغادرة المفاوضات سيحاول أن يرى في خطابه المفاوض مقدمة [مقدمة محدودة ومحدودة جداً] للخروج من دائرته السياسية. غير أن الحقيقة، كما تتبدى في الواقع، تقول إن السلطة الفلسطينية لم تغادر موقعها بعد، ولم تتخذ من الإجراءات السياسية والإدارية والقانونية والاقتصادية والمالية، ما ينبئ أنها سوف تغادر موقعها السياسي الحالي نحو موقع سياسي جديد، فمازالت اتفاقية أوسلو هي الأساس للعلاقة مع الجانب الإسرائيلي.
• أوسلو تعرف الأرض الفلسطينية بأنها أرض متنازع عليها تحسم في مفاوضات الحل الدائم. ومادامت الأرض متنازعاً عليها، فإن كل ما على هذه الأرض متنازع عليه إذن ، بما فيه الأقصى الذي تدعي إسرائيل أنه مبني فوق الهيكل اليهودي.
• أوسلو تفرض على السلطة الفلسطينية التنسيق الأمني، والمظاهر [رغم النفي الدائم من الضميري] تؤكد أن التنسيق قائم بين الجانبين.
• أوسلو تفرض على السلطة الفلسطينية تبعية اقتصادية، الوقائع تؤكد أن التبعية مازالت قائمة وأن يؤشران تنبئ بخطوات لفك العلاقة الاقتصادية مع الجانب الإسرائيلي.
• والأهم من هذا، أن أوسلو ينص على عدم اتخاذ إجراءات من جانب واحد، الوقائع تؤكد أن الجانب الفلسطيني هو الوحيد الملتزم بالاتفاق، ومن بين التزاماته التمسك بالمفاوضات سبيلاً وحيداً للحل، من هنا رهانه على أن تتراجع حركة الشارع الفلسطيني يوماً بعد يوم، إلى أن يصاب الشباب بالإرهاق، وباليأس ويعود كل إلى منزله.
وظيفة اللغة الغامضة إذن كسب الوقت، ورهان على الوقت، ورهان ضد الهبة، وموقف لا يصب، في النهاية في خدمة الهبة.
* * *
الهبة الجماهيرية، فتحت الباب لأكثر من خطوة، مازالت الأطراف المعنية مترددة [بل محجمة] عن القيام بها.
• فرصة لإنهاء الانقسام. مقابل هذا نلاحظ مزايدات كلامية بين الجانبين، تصل أحياناً إلى حد تبادل الاتهامات بدلاً من فتح مسارات للتشاور في طبيعة المرحلة والدور المشترك الواجب القيام به معاً.
• فرصة لاتباع سياسة جديدة وبديلة، تطوي صفحة المفاوضات، كما قرر المجلس المركزي في دورته الأخيرة. البديل لذلك، كما نلاحظ اللف والدوران وإحالة الأمور إلى اللجان، من أجل كسب الوقت والرهان على أن يصيب الإرهاق واليأس الناشطين في الشارع.
• فرصة لقيام حكومة فلسطينية جديدة، تمثل الوحدة الوطنية بأرقى أشكالها، وتحمل على عاتقها مسؤوليات المرحلة الجديدة سياسياً وكفاحياً. الواقع يقول بأن الحكومة الحالية باقية وأنها تستعمل كأداة لتعطيل مسيرة إنهاء الانقسام، من خلال الربط بين تفعيل دورها في غزة، وبين خطوة التحضير للاجتماع القادم للمجلس الوطني.
الخطاب الغامض، تكشفه الخطوات العملية التي تتبعها القيادة الرسمية.
والغموض، مهما تذاكى، فلن ينجح في تضليل الشارع. لأن الشارع يدرك أن طريق الاستقلال لا يمر عبر السياسات الغامضة، المتلونة، حمالة الأوجه، تلعب على الوقت بانتظار عودة كيري إلى إحياء طاولة المفاوضات.