استراتيجية بوتين لعودة روسيا إلى مسرح السياسة الدولية
2015-11-02
· مع انتهاء الحرب الباردة انتهى الخلاف الإيديولوجي، لكن الجدل الجيوـ سياسي لم ينتهِ، لأن لكل الدول مصالحها الوطنية القومية
· القوة العسكرية ستكون أداة للسياسة العالمية، ولكن السؤال: هل سيتم استخدام هذه القوة فقط بعد نفاد الوسائل الأخرى؟
كان الخطاب الذي ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أمام «منتدى فالداي» (الأمني) الذي عقد أخيراً (22/10)، في مدينة سوتشي الروسية، أشبه بـ «مانيفستو» لقوة عالمية كبرى، تطمح إلى استعادة مكانها على مسرح السياسة الدولية، سواء في مجالها الحيوي، المتمثل في دول الاتحاد السوفياتي السابق، كما حصل في أوكرانيا، على خلفية مواجهة مشاريع التوسع الأطلسية، أم في منطقة الشرق الأوسط، كما يحصل الآن عبر تدخلها العسكري في سوريا، وتمكنّها من فرض أمر واقع جديد. وأيضاً على مستوى الاقتصاد الدولي، من خلال مشاركتها في تأسيس التجمعات والمنتديات الاقتصادية الكبرى، وأبرزها تكتل «بريكس» ومنتدى «شنغهاي».
على الصعيد الدولي
وفي مستهل حديثه، تحدث بوتين عن ظاهرة السلم والحرب في العصر الحالي، وقال إن «انتهاء الحرب الباردة أدى إلى نهاية النقاش الإيديولوجي، لكن الجدل الجيوـ سياسي لم ينتهِ، لأن لكل الدول مصالحها الوطنية القومية». وأضاف إن «تطوّر تاريخ البشرية كانت ترافقه دائماً المنافسة بين الدول والشعوب، وهذا أمر طبيعي ومنطقي»، لكنه شدد على أن هذه المنافسة «يجب أن تستند إلى القانون الدولي والمبادئ الدولية، للحيلولة دون أي نزاعات حادة».
واعتبر بوتين أننا إلى اليوم، ما زلنا نشهد محاولات لفرض الهيمنة العالمية، بما يؤدي إلى الإخلال بالتوازن الدولي، وهذا يعني أن «المنافسة العسكرية يمكن أن تخرج عن نطاق السيطرة، ما يعني تزايد النزاعات الحدودية، حيث تتصادم مصالح الدول الكبرى أو التحالفات الكبرى».
وفي إشارة واضحة إلى الولايات المتحدة، حذر بوتين من أن محاولات فرض الهيمنة تلك تنطوي على مخاطر كبيرة، وخصوصاً لجهة انتهاء العمل بمنظومة عدم انتشار الأسلحة التقليدية وتقويض أسس معاهدة عدم الانتشار النووي.
وتطرّق بوتين إلى المخططات الأميركية لإقامة الدرع الصاروخية في أوروبا، فقال: «القضية النووية الإيرانية تم حلها، ولم تعد هناك أي تهديدات من قبل إيران، وبالتالي فإن الذريعة التي استخدمها شركاؤنا الأميركيون لإقامة الدرع الصاروخية قد زالت، ولذلك، فإننا كنا ننتظر أن يتوقفوا عن تطوير هذه الدرع، ولكن ذلك لم يحصل، لا بل إنهم مستمرون في تطوير هذه المنظومة العسكرية، وقد قاموا باختبارها في القارة الأوروبية قبل أيام، وهذا يعني أننا كنا محقين حين ناقشنا معهم هذه المسألة في السابق».
ورأى بوتين أن «الأمر لا يكمن في (مواجهة) الخطر الإرهابي الوهمي، بل في محاولة الإخلال بالتوازن الاستراتيجي من أجل السيطرة وفرض الإملاءات على الجميع - المنافسين السياسيين والحلفاء على حد سواء - وهذا السيناريو خطير للغاية، ومضرّ بالجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة».
وفي معرض حديثه عن المشهد الدولي، قال بوتين: «إن القوة العسكرية ستكون أداة للسياسة العالمية، وهذه حقيقة الحياة، ولكن السؤال: هل سيتم استخدام هذه القوة فقط بعد نفاد وسائل أخرى؟»، وهل سيتم استخدام القوة العسكرية في حال ظهور مخاطر مشتركة، مثل الإرهاب، وبموجب قواعد القانون الدولي، «أم سيتم استخدامها، لأي ذريعة، بغرض تذكير العالم بماهية صاحب هذه القوة، دونما حل القضايا العالقة؟».
وحذر بوتين من أن «المناعة ضد الحرب التي اكتسبتها الإنسانية بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية قد بدأت تتلاشى... وللأسف فقد صار شائعاً استخدام المصطلحات العسكرية في شتى المجالات الاجتماعية، فهناك الحروب التجارية وحرب العقوبات، وغيرها مما يجري تداوله في وسائل الإعلام».
الاقتصاد وحرب العقوبات
وقدّم بوتين العديد من الوقائع، للقول إن الولايات المتحدة تفرض العقوبات والغرامات حتى على من تسميهم حلفاءها، متسائلاً: «هل يمكن التعامل بهذه الطريقة مع الحلفاء؟ كلا، بهذه الطريقة يمكن فقط التعامل مع التابعين، الذين خرجوا عن نطاق السيطرة، ويعاقبون لهذا السبب».
وفي الحديث عن العلاقات الاقتصادية الدولية، قال بوتين: «نرى كيف تجري عملية تشكيل تحالفات اقتصادية غير شفافة، وبسرية تامة، وذلك لغرض واضح، هو إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي لتعزيز الهيمنة وفق المعايير الأميركية التجارية والاقتصادية وغيرها»، محذراً من أن «تشكيل هذه التحالفات الاقتصادية من قبل اللاعبين الأقوياء لن يجعل العالم أكثر أماناً، بل سيزرع ألغاماً، وتربة خصبة للنزاعات القادمة».
في المقابل، أكد بوتين أنّ المقاربة الروسية بشأن العلاقات الاقتصادية مختلفة تماماً، مشيراً، على سبيل المثال، إلى أن «علاقاتنا مع شركائنا قد أتت بناء على المبادرة الصينية في إطار مشروع طريق الحرير، ولدينا مساواة كاملة في الحقوق في «البريكس» وغيره من المحافل الاقتصادية الإقليمية، بعيداً عن فكرة الحروب التجارية».
وفي الجانب الاجتماعي، لفت بوتين إلى أن «هناك استخداماً متكرراً لمصطلحَي الحرب والنزاع في معرض الحديث عن العلاقات بين الأديان والقوميات والإثنيات، ونرى اليوم مئات الآلاف من النازحين ممن يحاولون التأقلم مع بيئة اجتماعية جديدة، في حين أن المواطنين الأصليين منزعجون إزاء وصول هؤلاء النازحين، ومن فكرة أن هناك نفقات كبيرة تصرف من موازنات دولهم لتلبية احتياجات اللاجئين»، مشيرا إلى صعود الكراهية ضد الأجانب والتي تشكل دوافع للنزاعات الاجتماعية.
تطورات الشرق الأوسط
وفي صدد التطورات الجارية في الشرق الأوسط حالياً، رأى بوتين أن هناك قضايا وخلافات عرقية ودينية واجتماعية واقتصادية تراكمت على مرّ السنين.. ولكن الأخطر أن «ثمة محاولات جرت من الخارج لإعادة تشكيل هذه المنطقة أدّت إلى انفجار حقيقي، وتدمير للدول، وصعود للإرهاب، وانتقال المخاطر إلى العالم بأسره».
ولفت بوتين إلى أنه لو تمكن تنظيم «الدولة الإسلامية» من السيطرة على دمشق أو بغداد، لكان «تحوّل إلى دولة حقيقية، مهددة العالم أجمع». ورفض بوتين سعي بعض العواصم الكبرى إلى التفريق بين إرهابيين متطرفين وآخرين معتدلين، أو بين «إرهابيين جيّدين وآخرين سيئين». واستطرد قائلاً: «صحيح أن إرهابيي (الدولة الإسلامية) و(جبهة النصرة) وغيرهما من شظايا (القاعدة) يتناحرون في ما بينهم، ولكن ذلك من أجل اكتساب الأموال والموارد الأخرى، وليس لأسباب أو دوافع إيديولوجية، أما أدواتهم فهي واحدة: الإرهاب، والقتل، وتخويف الناس».
وأشار الرئيس الروسي إلى أنه «خلال السنوات الأخيرة، كانت الأوضاع تتدهور، وكانت البيئة الإرهابية تتنامى، وعدد المسلحين الإرهابيين يزداد، والأسلحة تسلم إلى ما يسمّى المعارضة المعتدلة؛ التي كانت تجد طريقها أخيراً إلى يد الإرهابيين، لا بل إن فصائل كاملة كانت تنتقل إلى صفوف الإرهاب».
وتساءل: «لماذا لم تأتِ جهود شركائنا الأميركيين والغربيين وحلفائهم في حربهم ضد (الدولة الإسلامية) بنتائج ملموسة؟ الإجابة واضحة: الولايات المتحدة تمتلك قدرات عسكرية ضخمة، ولكن من الصعب القيام بلعبة مزدوجة، وهي محاربة الإرهاب من جهة، واستخدام جزء من الإرهابيين لإعادة رسم منطقة الشرق الأوسط وإسقاط الأنظمة غير المرغوب فيها من جهة أخرى».
في الشأن السوري
وأضاف قوله: «نعي تماماً أن الإرهابيين الذين يحاربون في الشرق الأوسط يشكلون خطراً على الجميع، بما في ذلك روسيا. ومن أجل ذلك دَعَونا إلى تشكيل تحالف دولي واسع ضد الإرهاب أثناء كلمتي في الجمعية العامة للأمم المتحدة». وبعد طلب رسمي من الحكومة السورية، «اتخذنا قراراً لإطلاق عملية عسكرية في سوريا، وهي عملية شرعية تماماً، هدفها الوحيد إعادة السلام في هذا البلد، وأنا على ثقة بأن عمل العسكريين الروس سيؤثر بشكل ايجابي في تطورات الأوضاع في سوريا، وسيساعد السلطات السورية في إطلاق التسوية السياسية والقضاء على الإرهاب».
واعتبر بوتين أنه «لا بد من اتخاذ خطوات لإعادة الإعمار، على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، للحيلولة دون انتشار الإرهاب في سوريا والعراق، ومن أجل ذلك، لا بد من توحيد الجيش السوري والجيش العراقي وفصائل المقاومة الكردية، وغيرها من فصائل المعارضة المعتدلة القادرة على التصدي للإرهاب».
وأكد بوتين أن «الانتصار العسكري على الإرهابيين لن يحل كل القضايا، لكنه سيهيئ الظروف لإطلاق عملية سياسية بمشاركة جميع القوى الوطنية السورية، لأن السوريين وحدهم من سيقرر مصيرهم بمشاركة دولية بنّاءة بعيداً عن أي إملاءات أو تهديدات أو ابتزاز». وأضاف أن «تدمير الدولة السورية قد يؤدي إلى تنشيط العمل الإرهابي، ولذلك فإن ثمة ضرورة لتعزيز المؤسسات الحكومية».
وختم بوتين قائلاً: «نحن مستعدون لتنسيق نشاطاتنا مع الشركاء الغربيين، لكن الأمر الأهم هو أن نتعامل كشركاء في مكافحة الإرهاب، وبإمكان سوريا أن تصبح نموذجاً للشراكة من أجل المصالح المشتركة، وتشكيل منظومة فعالة لإدارة الأزمات»، مشدداً على «ضرورة استخلاص العبر الصحيحة من تجارب الماضي والمضي قدماً».