شهرزاد فلسطينية بواقعية جديدة
2015-12-22
استوكهولم – فجر يعقوب
تشاء المخرجة الفلسطينية مي المصري لفيلمها الروائي الطويل الأول «3000 ليلة» والذي عرض أخيراً في دبي كعرض عربي أول بعد جولة عالمية أوصلته إلى السويد ولندن والهند وغيرها، أن يكون بعداً معرفياً وجمالياً موازياً لحكاية أسطورية تجيد فيها البطلة سرد حكايتها. ليست شهرزاد إلا تلك الراوية المتمسكة بأبعاد جديدة واقعية. نحن هنا نقف على شهرزاد الفلسطينية التي تتقن القفز عبر مكونات القص بأدوات جديدة: الحس الواقعي الوثائقي المطعم بنكهة الرواية وبإضاءة مبهرة وبحركة كاميرا متوثبة وعميقة في شغلها على أدق التفاصيل في السجن الذي تختاره المصري لتصور فيلمها بالكامل فيه، وكأنها تريد أن تفسح المجال أكثر للغوص في تقلبات الإنسان العاصفة على صعيد تبدل وتداول الأمكنة التي يتعاقب عليها الجلادون في أمكنة وأزمنة مختلفة، وإن ظلت الرموز في الفيلم تتكثف في شكل مستمر في إشارة على وميض الداخل الذي تتقنه البطلة ليال عصفور (ربما تكون ميساء عبد الهادي الاكتشاف الكبير في هذا الفيلم كممثلة) والبطلات الأخريات بطبيعة الحال. ليال في تكثيف روايتها تطيل في عمر الليالي التي ستقضيها في سجن إسرائيلي بعد أن تحكم من قبل محكمة عسكرية إسرائيلية ثماني سنوات، يقابل كل ذلك شغل على عمر الأسطورة نفسها لجهة إمحاء غطرسة الجلاد من الذاكرة التي لا يمر سرد من دونها.
تشاء المخرجة الفلسطينية مي المصري لفيلمها الروائي الطويل الأول «3000 ليلة» والذي عرض أخيراً في دبي كعرض عربي أول بعد جولة عالمية أوصلته إلى السويد ولندن والهند وغيرها، أن يكون بعداً معرفياً وجمالياً موازياً لحكاية أسطورية تجيد فيها البطلة سرد حكايتها. ليست شهرزاد إلا تلك الراوية المتمسكة بأبعاد جديدة واقعية. نحن هنا نقف على شهرزاد الفلسطينية التي تتقن القفز عبر مكونات القص بأدوات جديدة: الحس الواقعي الوثائقي المطعم بنكهة الرواية وبإضاءة مبهرة وبحركة كاميرا متوثبة وعميقة في شغلها على أدق التفاصيل في السجن الذي تختاره المصري لتصور فيلمها بالكامل فيه، وكأنها تريد أن تفسح المجال أكثر للغوص في تقلبات الإنسان العاصفة على صعيد تبدل وتداول الأمكنة التي يتعاقب عليها الجلادون في أمكنة وأزمنة مختلفة، وإن ظلت الرموز في الفيلم تتكثف في شكل مستمر في إشارة على وميض الداخل الذي تتقنه البطلة ليال عصفور (ربما تكون ميساء عبد الهادي الاكتشاف الكبير في هذا الفيلم كممثلة) والبطلات الأخريات بطبيعة الحال. ليال في تكثيف روايتها تطيل في عمر الليالي التي ستقضيها في سجن إسرائيلي بعد أن تحكم من قبل محكمة عسكرية إسرائيلية ثماني سنوات، يقابل كل ذلك شغل على عمر الأسطورة نفسها لجهة إمحاء غطرسة الجلاد من الذاكرة التي لا يمر سرد من دونها.
ليال مدرّسة فلسطينية تعتقل في يوم ماطر. تضعنا المخرجة في أجواء عاصفة منذ الكادرات الأولى لفيلمها. هذا التوتر تعكسه البطلة بعينيها وهي تدور في المعتقل بحثاً عن تمكين درامي لسرد القصة. بدت أنها عين الكاميرا الثانية التي تدور باقتدار في المكان لجهة تحديد مصادر الضوء والصوت ونحن نتابع صرخاتها في وجه المحققات الإسرائيليات حين يلقين بها في الليلة الأولى بين سجينات جنائيات إسرائيليات يعرفن كيف يدرن أيامهن ويطلن من شقاء ليال. لكن مهلاً ثمة على الضفة الأخرى السجينات الفلسطينيات. هناك سناء وجميلة وفداء وأم علي وأخريات. بالتأكيد ستحظى ليال بمراقبة متوجسة من سناء الفدائية الفلسطينية اللبنانية المحكومة بخمسة عشر عاماً لأنها حظيت بمكالمة زوجها في الخارج من مكتب مديرة السجن، وهذا يعني في ذهن سجينة سياسية متمرسة مثل سناء أن ثمة صفقة جرت في الخفاء مقابل «هذا الدلال».
الزوج المتردد
بالمقابل سوف نكتشف بالتدريج خطوط الرواية: هناك الزوج الذي يقف متردداً في علاقته بزوجته المدرّسة البريئة في سلوكها وفي حياتها غير المتمرّسة في الأعمال النضالية الملقاة على عاتق النسوة، ويقرر أن يهاجر إلى كندا حتى لا يخسر الفيزا التي حصل عليها. سوف نسير على خط مواز مع «الجلاد» التي تقتـــرح على ليال إسقاط الجنين الذي تحمل به حتى تتمكن من تمضية محكوميتها بأضــــرار أقل، وهو نفس الطلب الذي يتقدم به زوجـــها منها وهو بذلك يكشف عن جبن يلائم السرد الذي تفترضه ليال وهي تكتشف عالماً شرساً وقاسياً يمكن أن يتساوى فيه اضطهاد المرأة مع الاحتلال.
تقول مي المصري في لقائها مع الجمهور السويدي والعربي الذي تابع الفيلم في عروض مهرجان استوكهولم السينمائي الدولي: «لكل حكاية فلسطينية شهرزاد خاصة بها. ليس ممكناً القبول بأقل من ذلك. وهي إذ تتيح سرد قصتها على الملأ فإنها تكتشف بالتدريج أدواتها. تماماً مثل اكتشاف لذة السرد في حكايا شهرزاد الأسطورية».
ليال لن تكتفي بتربية وليدها الجديد في سجـــن جهنمي محاط بقسوة السجينات الجنائيات وعدم تقبل سناء لها في بادئ الأمر، بل ستعمل بخلق مشاعر جديدة متوائمة مع حكايتها حتى تحسن من فرادتها، وهذا ما نجحت به ميساء عبد الهــادي كممــثلة تعمل بإدارة مخرجة مرهفة عرفت كيف تقدم من قبل نماذج أنـــثوية مبـهـــرة في أفلام وثائقية لا تزال تحتل الذاكرة السينمائية بطزاجتها وألقهـــا، وها هي ليال تدخل كممثلة علـــى خط السرد الأنثوي الذي تتيحه لنا المصـــري فــــي أول فيلم روائي طويل لها.
لا تكتفي المخرجة الفلسطينية بولوج منطقة خطرة في حسابات هذا السرد. صارت تدرك من بعد طول معاينة وتدقيق وتأمل أنها تملك الطاقم الملائم لتصوير «3000 ليلة». البطلة محكومة بثماني سنوات، وهي تعادل حسابياً هذه الليالي الطويلة، وإن أضفنا لها ليال، فإن المعادلة تتقلص لحساب البطلة التي تدخل في الفيلم من جهة العتمة لتبدأ بتحليل مكونات الضوء، ليس بوصفه فاتح شهية وحسب على الحرية التي تفتقدها في الزنزانة، بل وكفعل فيزيائي مكثف، حيث تتلاعب كاميرا المصري بمكونات الظل والنور في حسابات دقيقة تدفع هذه المعادلة المعقدة إلى الارتجاف على وقع العالم الداخلي للبطلة ميساء عبد الهادي، لتشكل مفاجأة الفيلم كما أسلفنا. من المؤكد أن مي المصري تظل أمينة لحوارات سابقة أجريتها معها في أوقات مختلفة. أرادت للعنوان أن يكون مفتوحاً على تفسيرات شتى تجمع من خلال فكرة الزمن الطويل مع فكرة الليل أو العتمة التي تبهر السجان وتخذل المسجون، ولكنها ها هنا تتحول تدريجياً إلى طريقة أنثوية في السرد والصمود يصبح في السجن عبر الخيال وعبر ممكنات هذا السرد، فما من أدوات أخرى تعيل المعتقلة ليال على التحرر من لياليها إلا بالخيال، وهو أعلى سلطة هنا، تفوق سلطة السجان والسجينات الجنائيات وفكرة السجن نفسه. سوف نكتشف عن طريق موازاة السرد أن ليال بعد أن تضع مولودها (نور) سيكون هنا هو لعبة الضوء التي تقف على نقيض كل شيء. حتى أنها تحميه باسمها.
نور وليال لعبة ذكية في السرد يتيح للأم المعتقلة أن تدرك قوتها من خلال موازاة جسم الوليد الصغير مع مكونات الضوء الشحيح الذي يتسلل إلى الزنازين الرطبة. في بعض أجمل مشاهد الفيلم سنقع على ذلك العصفور الحجري الذي ينام في يد نور. وعندما يغرق في نومه يتحول الحجر إلى عصفور حي يتحرك ويغير من قتامة الروح التي تغزوها العتمة ويطير على وقع خطوط موسيقية نغمية في الخلف لا يمكن الشعور بها إلا حين الإحساس بلحظة إفلات العصفور وتحليقه بعيداً. كل تلك الظلال التي تتحرك في ساحة السجن وعند الجدران ستكون مقدمة لإضراب شديد تقوم به السجينات الفلسطينيات على وقع الأخبار المتواترة عن اجتياح لبنان ومجازر صبرا وشاتيلا وحلقات عمليات تبادل الأسرى بين فصائل فلسطينية وإسرائيل، وربما تبدو مهمة قيمة ذلك التحول الذي تبديه شولاميت، السجينة الإسرائيلية الشرسة التي تتكفل بليال في يومها الأول حين تقع جراء جرعة زائدة من المخدرات وتقوم ليال بإنقاذها. تنقاد هذه السجينة إلى عوالم مختلفة. تصبح صديقة لعدوتها ليال. وهنا يصبح على ليال أن تتقبلها بوصفها إنسانة يمكن التفلت من عداوة مستحكمة من أجل حوار متقد بعيد عن آباء الصهيونية المؤسسين. أن تتخلص شولاميت من المخدرات بنداء داخلي حار من ليال يبدو وكأنه الحل الأمثل أمام هذه السجينة اليهودية لأن تتحرر من عقيدة المكوث على الضفة الصهيونية والاستجابة لهذا النداء الذي تنجح الممثلة الفلسطينية ميساء عبد الهادي في تلبسه وتقديمه لنا ببراعة ملحوظة في فيلم «3000 ليلة». تتغلب هنا على مكونات السرد الذي يحيل إلى إحالات إنسانية يجب أن تمر بها السجينات على الضفتين. بعض هذه الإحالات يخفي قوة وبعضها يخفي ضعفاً قاتلاً في هذه المكونات، ولكنها تلزم لإكمال الحكاية. تقول المصري إنها تريد أنسنة شخصياتها من خلال التركيز على عالم نسوي مغلق ومبتور وفيه إقصاء عن كل ما هو آدمي.
كل ذلك سينفع في إكمال السرد الذي تبدأ به ليال. سيعود زوجها للمطالبة بنور بذريعة أنه لا يجب أن يبقى سجيناً معها وراء الجدران. ربما تعرف الحب مع سجين فلسطيني يشرف على علاجها في عيادة السجن.
هذه حقيقة الحياة التي يجب أن تستمر في رفض مضمر للرموز التي تغلف الحكاية برمتها. عالم السجينات الفلسطينيات قائم على التدرب على الخيال لمن لا تملكه. جميلة المعتقلة مع شقيقتها فداء ستدفع حياتها ثمناً لذلك في باحة السجن برصاصة من جندي إسرائيلي. يتبع ذلك إضراب وغاز مسيل للدموع في الزنازين. لن يتوقفن عن التدرب على الخيال حتى تلوح الحرية. إنهن كما تقول مي في جمهورية للنساء السجينات وليس أمامهن للظفر بحريتهن إلا الخيال. هذا ما تعلمه ليال لوليدها نور. تدربه على الطيران في أرجاء السجن قبل أن يذهب فعلياً لمعانقة الضوء الذي يحمل اسمه. أما ليال فستخرج للقائه عند البوابة بعد أن تنهي عقوبتها.