:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/74314

نازحون من مخيم جنين: حجم الدمار هائل وغير مسبوق

2025-02-14

كان الجامع الكبير وسط مخيم جنين، أقرب مكان تتمكن اللاجئة أم محمود من الوصول إليه، وهو على بعد عشرات الأمتار من منزلها الذي أجبرها جيش الاحتلال على النزوح منه في اليوم الثاني من عملية "الأسوار الحديدية" في الحادي والعشرين من الشهر الماضي.
"كان بدي أشوف دارنا إذا بعدها وإلا هدوها.. بس ما قدرت".. بهذه الكلمات راحت أم محمود تتحدث لـ "الأيام"، عن "رحلة العودة" القصيرة لمخيمها الذي لم تولد فيه، ولكن جميع ذكرياتها في أزقته وحاراته، بعد نحو 28 عاماً من الزواج فيه.
تقول أم محمود وقد بدت شاحبة الوجه، إنها بعد 19 يوماً من النزوح من منزلها داخل المخيم، توجهت برفقة عائلتها إلى منزل والدها في إحدى قرى جنين، بعد أن أجبرها جنود الاحتلال على الخروج من المخيم، شأنها في ذلك شأن الغالبية العظمى من أهله والذين أجبروا على النزوح منه تحت وطأة قصف وحرق ونسف المساكن والمنشآت والقضاء على جميع مقومات البنية التحتية فيه.
ومضت "في اليوم التاسع عشر، حاولت الوصول إلى دارنا في المخيم، وما شعرت بأي خوف، وكل همي أشوف دارنا إذا بعدها واقفة وإلا مهدودة، ووصلت الجامع الكبير وسط المخيم، ودارنا في الزقة القريبة، وهناك صرخ عليّ الجنود وطالبوني بالخروج من المخيم، وقلت لهم بدي أصل لدارنا هون، بس ما ردوا وهددوا بإطلاق النار عليّ".
ولم يكن هناك من خيار آخر أمام أم محمود، سوى العودة من حيث أتت دون أن تكحل عينيها برؤية بيتها الذي شيدته العائلة بشق الأنفس، ودون أن تعرف هل بقي البيت أم تم هدمه، خصوصاً أنه يقع في منطقة تعرض الكثير من المساكن والمنشآت فيها للنسف والحرق والقصف.
وفي مكان آخر غير بعيد داخل مخيم جنين، وقفت اللاجئة أم هاني (74 عاماً) وهي تراقب حجم الدمار المهول الذي حل بالمخيم الذي سكنت فيه قبل نحو 53 عاماً، وأصبحت تنافس أهله في حبها وانتمائها لهذا المخيم الذي عاشت فيه أجمل سنوات عمرها، كما قالت.
وبدت أم هاني والتي استشهد حفيدها أحمد بركات (23 عاماً) قبل عدة شهور جراء قصف طائرة إسرائيلية مسيرة لمركبة كانت تقله برفقة عدد من المقاومين الذين استشهدوا، في حال من الذهول الشديد وهي تتنقل بعينيها المتعبتين لتشاهد ما حل بمخيمها من دمار غير مسبوق، حيث المساكن والمحال التجارية والمنشآت التي سويت بالأرض وأصبحت أثراً بعد عين، والشوارع المجرفة، وألسنة الدخان المتصاعدة من عدد من المنازل التي أحرقها وقصفها جيش الاحتلال.
"يا الله شو كل هالخراب".. هذه الكلمات خرجت بعفوية من فم أم هاني المعروفة لدى جميع أهالي مخيم جنين، والدموع تسيل من عينيها وهي تنظر إلى حجم الدمار الهائل الذي حل بالمخيم، لدرجة لم تتمكن فيها في البداية من التعرف على الحارة التي عاشت فيه عشرات السنين، حيث رائحة الموت والدمار تنتشر في كل مكان.
تقول أم هاني والتي لا يكاد صغير ولا كبير من أهالي المخيم لا يعرفها وهي بائعة الخضار والفواكه، إنها سكنت في المخيم قبل نحو 53 عاماً، وعايشت فيه ظروف انتفاضة "الحجارة"، وبقيت فيه على مدار أيام اجتياحه المدمر من قبل جيش الاحتلال في نيسان العام 2002، ولم تفكر بالخروج منه تحت وطأة الاجتياحات والاقتحامات الإسرائيلية المتكررة.
وأقسمت تلك اللاجئة، اليمين على ألا تغادر المخيم إلا إلى قبرها بعد وفاتها، ولكنها لم تبر بقسمها، فاضطرت مكرهة وبقوة سلاح جيش الاحتلال إلى النزوح من داخل مخيمها الذي أصيبت فيه قبل عدة شهور بشظايا صاروخ أطلقته طائرة إسرائيلية مسيرة، ومكثت رهن العناية المشددة لفترة طويلة، ولكنها نجت، و"يا ليتني لم أنج" كما قالت أم هاني حتى لا يمد الله في عمرها وتشاهد المخيم على هذا الحال الصعب.
وحاولت أم هاني وهي تشق طريقها من بين أكوام الوحل، الاستعانة بعدد من الصحافيين لمرافقتها إلى منزلها في مهمة كانت أشبه ما تكون بالمستحيلة والمحفوفة بالمخاطر، حيث كانت قدماها تغوصان في أكوام الوحل، بعد أن دمرت جرافات الاحتلال الشوارع.
وقالت وهي تحاول التقدم نحو منزلها: "ما ظل بيوت صالحة للسكن هون.. هدوا المخيم"، مشيرة إلى أنها بقيت داخل المخيم لمدة يومين خلال العدوان الإسرائيلي المتواصل رافضة النزوح، وكانت تسمع أصوات نسف المنازل وهدمها، حتى أجبرها جنود الاحتلال على النزوح من داخل منزلها والخروج من المخيم.
وتقدمت أم هاني وعدد محدود من أهالي المخيم نحو أطراف ساحته الرئيسة، وحاولت الدخول من الباب الذي أغلقته جرافات الاحتلال بالسواتر الترابية، واستعانت بالصحافيين لمساعدتها على تجاوز الأسلاك والحجارة للوصول إلى مدخله، وهناك صدمت من حجم الخراب والدمار.
وقالت: "ما خلولنا خيط بإبرة"، مؤكدة أن منزلها المتواضع كان هدفاً للتدمير الداخلي من قبل جنود الاحتلال والذين حطموا كل شيء فيه.
ومن بين النازحين هؤلاء، كان الشاب أنس الطوباسي (33 عاماً) والذي حاول الدخول إلى منزله في ساحة المخيم على أمل الحصول على ملابس وأغطية شتوية لعائلته النازحة، والتي أجبرت على الخروج من منزلها بملابسها مزودة بالقليل من احتياجاتها الأساسية، اعتقاداً منها أنها ستعود بعد أيام، ولكن مرت 20 يوماً ولا توجد أي بوادر لانسحاب جيش الاحتلال.
وقال الطوباسي، يحاول الناس العودة إلى منازلهم في المخيم من وقت لآخر، وعند وصول أي معلومة عن انسحاب جيش الاحتلال من أي حارة من حارات المخيم، لنقل حاجياتهم الأساسية وملابسهم من داخل المنازل التي تركوها مجبرين.
ولم تنجح عدة محاولات قام بها الطوباسي في إخراج ملابس وأغطية شتوية لعائلته، حيث قال، إنه في كل مرة يطلق جنود الاحتلال النار على العائدين من النازحين، فيعودون أدراجهم.
وأطلق جنود الاحتلال، النار على الواصلين إلى ساحة المخيم بمن فيهم الصحافيون الذين رافقوا أم هاني والطوباسي، وتمكن عدد منهم من مغادرة المنطقة، ولكن الحظ لم يحالف أم هاني والآخرين بالخروج حيث علقوا داخل المخيم، حتى وجه جنود الاحتلال طائرة مسيرة إلى موقعهم وبدأت تصويرهم ومراقبتهم، قبل أن يسمحوا لمركبة إسعاف بدخول المخيم وإخراجهم، مع تحذيرهم من مخاطر العودة إلى المخيم.