:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/7654

ذاكرة أبناء الشتات الفلسطيني.. تُحفظ بالفن

2016-01-12

ماذا لو استيقظنا غداً صباحاً، ولم نجد أرضنا باسمها؟ ماذا لو سقط المؤرخون وكتبهم في ثقب أسود كبير؟ أين سنجد ذيل ذاكرتنا؟ أعتقد أنّنا خائفون جداً، خائفون أن ننسى التاريخ المحكي، أن تُمحى صور فلسطين من ذاكرة أجدادنا، أو تموت معهم. ماذا لو لم يبقَ سوى صورة لفرنسوا بيكو وهو يصافح مارك سايكس، وبعدها يتحول اسم يعقوب إلى إسرائيل؟
يعمل المؤرخ على مساحة الذاكرة، بينما يبدأ الفنان من حيث تنتهي الذاكرة، يعيد بناءها ونقلها، فدائماً ما يكون العمل الفني "مترحّلاً"، يخترق الحدود والأوطان.
في أحصنة طروادة المخادعة، يخبّئ الفنانون الفلسطينيون أعمالهم، ليلقوا ما فيها من أوجاع المخيم وضحكات المغتربين في جوف الأرض، تغادر هذه الأحصنة إسطبلات الحدود وعفن الجنود والساسة، لتمارس حق العودة بشكلها الفني.
المخيلة أوسع من أزقة المخيم
من مخيم شاتيلا، أرسل الفنان عبد الرحمن قطناني حصانه، بعدما التقط خيال الأطفال المتناثر على أشياء المخيم وما تبقى من ذاكرة أجداده، ليحولها إلى حشوة دسمة، أفرغ فيها ما في شرايين يديه من غضب، وإصرار على الانتماء لأرضٍ ولد بعيداً عنها ولم يطأها.
تشرّبت أعماله أوجاع أبناء المخيم، فقد تشكّلت من أشيائهم: من ألواح الزينكو التي بنوا منها منازلهم البسيطة، من الأسلاك الشائكة التي حالت بينهم وبين عودتهم، ومن كل ما يلفظه المخيم من المخلفات، التي تحوّلت إلى مادته الخاصة.
عندما غادر جده يافا، كان يقول إن إقامتهم في بيروت لن تتعدى الأسبوعين، أخطأ الجد، وسُلخت العائلة عن أرضها. حضرت يافا في مخيلة عبد الرحمن منذ الطفولة، آمن بها وبالعودة، وعمل على تكريس فنه للمحافظة على مخيلته الواسعة رغم ضيق أزقة المخيم.
يقول عبد الرحمن إنّ الأطفال هم أكثر الكائنات القادرة على وصل الواقع بالخيال، لهذا نجد عدداً كبيراً من مجسمات ألواح الزينكو التي تمثل أطفالاً في أعماله. أحدها مجسم لطفل يحمل "نقيفة" أسماه "طفل الانتفاضة"، تتوسّط غلاف إحدى المجلات في الداخل الفلسطيني.
اختزل هذا الغلاف وجع فلسطينيّي العالم، فقد ظهر طفل الانتفاضة المصنوع من "زينكو الشتات" على غلاف مجلة يراها طفل قضى نصف عمره يبحث عن كومة حجار.
ذوّب عبد الرحمن الأسلاك الشائكة، أخضعها بيديه لتشهد ضياع وطنه، في عمل سمّاه "الزوبعة". لم يوقفه أحد على الحدود ولم يطلبوا هويته. دخل عبد الرحمن عمق الأراضي المحتلة، من خلال انتشار أعماله الفنية فيها.
مشاع إبداعي: كلمتان وقصيدة
في عصر الصورة وانتقالها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، نتسمّر أمام هواتفنا، لنراقب أحداث الانتفاضات، نشتم تكاسل الأنظمة. نحاول أن نمدّ أطرافنا إلى المواجهات مع جنود الاحتلال، فلا نلتقط سوى شرارات تضيء أعيننا.
على "فايسبوك" ظهرت صفحة "مُع"، وهي عبارة عن مشاع إبداعي، كما كتب مؤسّسها معاوية، الذي رفض ذكر اسم عائلته. يمكن لأيٍّ كان استخدام محتوى الصفحة شرط ألّا يستعمل لأهدافٍ تجارية.
يتنقل بين صور الشهداء، الأسرى، البيوت المهدمة، أطفال الانتفاضة، ليضيف إليها كلمات في المنتصف، حتى يكسب المشهد معنى جديدا. هكذا استطاع معاوية كسب سلطة الصورة.
في صورة "مات الولد" تكلّم معاوية عن معاناة الأطفال الفلسطينيين. انتشرت هذه الصورة بسرعة على جميع المواقع، وكأن هاتين الكلمتين كانتا كفيلتين بشرح ما يعانيه أطفال فلسطين منذ أكثر من ستين عاماً.
حوّل معاوية صوراً موجعة إلى انتصارات صغيرة. تغنى بصواريخ المقاومة الفلسطينية، "هيت لك ما أجملك"، كُتبت هذه العبارة على صورة صاروخ يغادر من غزة.
يقول معاوية إنّ المقاومة ليست حقّاً فقط بل واجب، وهو اختار طريقته الخاصة بالمقاومة. زخرف الوجع بكلمات تنهال كالمطرقة على مسامعنا وتوحدت مع الصور لتعدنا بمستقبلٍ أفضل. اختار قصائد كتبت قبل عقود لتتربع وسط صور حدثت في الأمس القريب، فلا شيء يتبدل في هذا العالم، غير أن آلام الموت ما زالت تفتك بأرواحنا.
***
ذوّب عبد الرحمن الأسلاك الشائكة، ودخلت أعماله الفنية من دون ختم. يرى الشاب أنّ التمسك بخيالنا هو أكبر دليل على إيماننا بحق العودة. أما معاوية الذي قضى عمره هو الآخر خارج حدود بلاده، فقد ذوّب في "مشاعه الإبداعي" شيفرة الصورة لينقل صوت الوطن في المنفى.