:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/7749

بؤس السياسة الأميركية - محمد السهلي

2016-01-23

في أواخر كل ولاية ينفض الرئيس الأميركي يده من التسوية، وتبقى عجلة الاستيطان هي ما يتحرك على الأرض
بانتهاء هذا العام، يحزم الرئيس الأميركي باراك أوباما حقائبه ويغادر البيت الأبيض الذي دخله بداية العام 2009. وبرحيله تطوى صفحة ثالث رئيس وضع توقيعه على يافطة التسوية بعد كل من الرئيسين بيل كلينتون وجورج بوش الابن.
اللافت أن كلا من هؤلاء الثلاثة بدأ ولايته بالانغماس في موضوعة التسوية محفزا الجانب الفلسطيني بسلة عامرة بالوعود سرعان ما انقلبت وعيدا وتهديدات ليختتم فترته الرئاسية وقد نفض يديه من الموضوع برمته بعد أن يؤكد عمليا انحيازه للرؤية التوسعية الإسرائيلية تجاه حل الصراع.
ثماني ولايات رئاسية أميركية متعاقبة استغرقت أربعا وعشرين عاما والمشهد يتكرر. الثابت فيه الانحياز الأميركي للاحتلال ورهان المفاوض الفلسطيني على التسوية التي خلف يافطتها ينشط المتحرك الوحيد؛ الاستيطان والتهويد.. وقتل الفلسطينيين.
نشط الرئيس الأميركي بيل كلينتون (1992 – 2000) في عملية التسوية على جبهة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وبدا لكثير من المراقبين أنه في بداية ولايته الأولى كان جزءا من عملية التفاوض بين الجانبين أكثر منه وسيطا وخاصة في الفترة التي أعقبت توقيع اتفاق أوسلو العام 1993.
السبب في ذلك أن القضية الفلسطينية كانت تحتل مقدمة الاهتمام الدولي والإقليمي بعد أن أعادت لها الانتفاضة الأولى الاعتبار ووضعت الاحتلال في زاوية ضيقة. وقد وضعت واشنطن ضمن أولوياتها في المنطقة إغلاق الباب الذي فتحته الانتفاضة بعد أن توالت الاعترافات الدولية بإعلان استقلال دولة فلسطين. ولفتح شهية قيادة منظمة التحرير، بادرت إدارة كلينتون إلى فتح حوار معها بهدف كسب ثقتها.. وموافقتها على تسوية لم تعلن أسسها وقواعدها إلا مع بلورة اتفاق أوسلو .. وإعلانه.
في هذا الاتفاق ضمنت كل من واشنطن وتل أبيب انعطاف الجهد الفلسطيني الرسمي عن المسار الذي رسمته الانتفاضة.. ووضعت المفاوض الفلسطيني في دائرة مغلقة منفذها الوحيد المفاوضات.. ثم المفاوضات ، ضمن عملية تسوية جزأت القضية الفلسطينية إلى عناوين موزعة إلى مسارات عدة بعد أن نزعت عنها عباءة قرارات الشرعية الدولية ورهنت مستقبلها بـ «نزاهة» الوسيط الأميركي التي سرعان ما انكشف أنها وهم ليس إلا.
وبحسب اتفاق أوسلو، كان من المفترض أن تنتهي الفترة الانتقالية التي تسبق قيام الدولة الفلسطينية في العام 1999 أي قبل نهاية ولاية كلينتون الثانية بعام واحد.
وبعد أن ثبتت تل أبيب ما تريده خلال هذه الفترة، أدارت ظهرها للاتفاق برمته باستثناء ما نتج عنه من اتفاقات وبروتوكلات أمنية واقتصادية تقيد الفلسطينيين بالمصالح الإسرائيلية.
خلال الولاية الثانية للرئيس كلينتون ترك لوزيرة خارجيته أولبرايت مسألة متابعة المفاوضات بين الجانبين، ولم يتدخل جديا إلا في صيف العام 2000 (كامب ديفيد2)، عندما اجتمع مع كل من الرئيس عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، لينفجر الاجتماع بعد أن تدخل الرئيس كلينتون منحازا للرؤية الإسرائيلية. وأقفل باب التسوية بانتظار رئيس أميركي جديد.
جاء الرئيس جورج بوش الابن ليبدأ ـ كما سلفه ـ بالاهتمام المباشر بعملية التسوية ـ لكن بعد أشهر من ولايته وقعت تفجيرات واشنطن ونيويورك. وبعدها بنحو عامين وقع الغزو الأميركي للعراق وعلى وقع هذين الحدثين الكبيرين كان الاهتمام الأميركي يدور حول تداعيات ما يجري على جبهات القتال.
ومع ذلك، فإن الانتفاضة الثانية كانت قد فرضت نفسها في المشهد الدولي والإقليمي. وهو ما أبقى موضوعة التسوية ضمن الاهتمامات الرئيسية لإدارة بوش الابن الذي كرر تجربة سلفه كلينتون من خلال طرح «خارطة الطريق» ذكرت مقدمتها ضرورة قيام الدولة الفلسطيني ونصت على إزالة البؤر الاستيطانية. وعلى الرغم من أن هذه المبادرة لا تلبي الحقوق الفلسطينية إلا أنها استفزت شارون الذي وضع شروطه الـ14 كي يتعامل معها. وشهدت تلك الفترة تصريحا هاما لبوش عندما وصف جدار الفصل العنصري بـ «الأفعى التي تتلوى على الأرض».
وكالعادة قوبل إصرار تل أبيب على سياستها التوسعية بضغط على المفاوض الفلسطيني، ومع ذلك، أدى الانحياز الأميركي للاحتلال الإسرائيلي إلى فشل محاولة الوصول إلى «اتفاق إطار» عقب مؤتمر أنابوليس في خريف العام 2007، لتعلن وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في العام 2008 (العام الأخير من ولاية بوش) عدم إمكانية التوصل لاتفاق، ونفضت الإدارة الأميركية يدها من الموضوع واستدارت باتجاه استحقاقات معركة الانتخابات الرئاسية التي جاءت بباراك أوباما رئيسا.
يمكن اختصار تجربة باراك أوباما مع الموضوع الفلسطيني من خلال إعادة قراءة خطابين له. الأول في 4 حزيران (يونيو) 2009 بالقاهرة، والثاني قبل نحو أسبوع من اليوم.
في الأول، أعلن أوباما تضامنه مع حق الفلسطينيين بقيام دولتهم. ودعا إلى تجميد الاستيطان. كان هذا الخطاب كافيا كي يحزم المفاوض الفلسطيني حقائبه باتجاه المفاوضات؛ التي شهد منها العام 2010 مرحلتين. تقريبية ومباشرة. وكان الشرط حينها أن لا يتم الانتقال إلى المباشرة إلا بعد تحقيق تقدم جدي في التقريبية.
أيضاً يتكرر المشهد، يناور بنيامين نتنياهو في مسألة التجميد المؤقت للاستيطان لمدة عشرة أشهر فيما استمر البناء الاستيطاني على قدم وساق. وعندما رفض المفاوض الفلسطيني الالتحاق بالمفاوضات المباشرة مورست عليه أشد الضغوط فالتحق بها في أوائل أيلول /سبتمبر من العام نفسه. لتفشل هذه المفاوضات بعد 16 يوما فقط من مهرجان تدشينها.
وشهد العام 2014 حلقة جديدة من مسلسل المفاوضات تحت عنوان «تفاهمات كيري» التي ثبت سريعا أنها منحازة للشروط الإسرائيلية، وفشلت هذه المفاوضات كما كان متوقعا.
في الخطاب الأخير لأوباما لم يذكر الموضوع بتاتا. وقبل ذلك بأشهر عندما التقى أوباما ونتنياهو غاب ذكر الاستيطان الذي كان طلب تجميده فاتحة البداية في ولاية الرئيس الأميركي الأولى.
مجددا، وفي آخر كل ولاية رئاسية أميركية ينفض الرئيس يده من موضوع التسوية.. وتبقى عجلة الاستيطان هي ما يتحرك على الأرض.
الغريب والمستنكر أن تتكرر مثل هذه السياسات الأميركية وعلى مدار نحو 24 عاما ولا يستخلص الدروس منها المراهنون على قطار التسوية الذي سار طويلا على سكة دائرية لا توصل إلى أي محطة.