:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/9458

مشاهد من الماضي الجميل: كَـرْم التّـيـن

2016-04-02

ليلتها سَهر جدّي مَعنا في بيتنا.
كعادتي عندما يحضرُ جدّي، أجلسُ في حضنه، يُداعبُني، ويُضحكني ويَحكي لي قصّصه الجميلة. ليلتها قال لي:
- يَلاّ روحي نامي عشان أوخْذك معي بُكره على حَرْذونة...
أيقظتني أمّي، كما وعدَتْ جدّي، صبّتْ لي الشاي مع الزّرَد، جهّزنا أنفسَنا للذّهاب. سمعتُ صوت حمار ينهق، ركضتُ إلى شُرفة الدار، وإذا بجدّي يمسكُ حبلَ الحمار ويربطه بجذع شجرة في حاكورة البيت.
تناولت أمّي القَرطلّة المعلقة بخطاّفة الحديد في سقف الشُّرفة، حَمَلتْها في يدها اليُسرى وجَرَّتني باليد اليُمنى.
رفَعني جدي وأجلسني على ظهر الحمار، فكّ الحبلَ وجرَّ الحمار. أمّي تمشي بجانبي، تُمْسكُ بي،تخافُ عليّ وتقول:
- إحْني ظهرك شْوَيّ واتْمَسّكي برقبة لِحْمار...
أحنيتُ جسدي وأحَطْتُ عنقَ الحمار بيديّ الصّغيرتين، وضغطتُ بكلّ قوتي خوفَ السّقوط. لم أر طوالَ الطريق غيرَ رأسِ الحمار وأُذُنيه الطويلتين، ولم أسمع إلّا صوتَ دَبيبِ خُطواته الثّقيلة، أعدّها خطوةً خطوةً حتى وصلنا إلى الأرض.
أنزلني جدّي عن الحمارِ. نظرتُ حولي مبتهجةً سعيدة مأخوذةً بالأرض الجميلة الممتدّة أمامي. أخذتُ أدورُ في كلّ الجهات وأنا فرحةٌ، وأظهرُ سعادتي الكبيرة بالقَفز والغناء والرّغبة بالرّكض في الأرض الواسعة. أمُي تُمسك بي وتُحذّرني من فعل ذلك.
سألت جدي: ليش سمّوا هاي الأرض حَرذونة؟ عشان فيها حَراذين؟
ضحكت أمّي كثيرا، وقال جدي: هيك كانوا يسَمّوا الأراضي، كيف إنتِ إلك إسم؟ كيف إمّك إلها إسم؟ كيف أنا إلي إسم؟
وبدأ يُسمّي لي أسماء أراض أخرى مثل: كرم الغندور، كرم جْبيلِه، المَوارس، المَحْفور، أسْنان الكلبِة، كرم زيدان، الحَسَنِه، وأسماء أخرى كثيرة، لم أحفظ منها سوى: زيدان، على اسم ابن صفّ أختي،واسنان الكلبة، لاستغراب الاسم، والحسَنِه، لأنّ جارتنا كان اسمها حَسَنِيّه.
أذكرُ أنّ أمّي أجلستني تحت شجرة التّين، سألتُها عن أكواز التين، لماذا تختلفُ ألوانُها وأشكالها وأحجامُها؟
قالت لي: كمان طعمتها مش نفس الشّي خُذي ذوقي.
تذوّقتُ حبّات التّين البَياضي والسّوادي والغَزالي والطّوالي، وكان الطّعم شهيّا، لذيذا خاصّة في أوقات الصباح.
قالت أمي: التين مْنيح وبِقوّي الجسِم، خلّيكي قاعدِه هون عشان ألحق أَعَبّي القَرطلّه قَبِل ما تِحْمى الشّمس.
أمي وجدّي يتجوّلان بين أشجار التين، يختاران أكوازَ التّين الناضجة والسّليمة، ويضعانها، كلّ واحد في قرطلّته.
بدأتُ ألعبُ بالتّراب، مددتُ رجلَيّ، وصرتُ أجمعُ الترابَ المخلوط بالحجارة الصّغيرة إلى حضني حتى تكوّنت كومة كبيرة أمامي، أمسكُ حفْنةً حفنة، أرميها عاليا في الهواء، الحجارة تسقط أمامي على الكومة، والتراب الناعم يطير ويعود ليَعْلقَ على وجهي وشَعري وملابسي.
لعبتُ كثيرا حتى شعرتُ بالتّعب، مددتُ يديّ على الكومة، أحنيتُ رأسي ووضعتُه بين يديّ، وبدأت أُطبّل وأرُصّ التراب ليلتصق ببعضه.
جاءت أمي وهالَها المنظر، بدأت تصرخ وتقول:
- يا ويلِك من ألله، وِلِك شو عامْلِه بْحالك، عزا اطّلّعي أواعيكي، وِجْهك، شعرِك. المِغْرِب غسّلتِك، باطل باطل عليّ...
سمعها جدي وجاء مسرعا. كاد يموت من الضّحك عندما رآني مليئة بالتراب، وقال لأمّي:
- إتِرْكيها، إصْحِك تِحْكي معْها إشي.. هيك لازم.. لازم تلعب بالتّراب وتْشِم ريحتُه وتْوَسّخ حالْها، عشان تْحِبّ الارض وتِتْعلّق فيها..
عندها صمتت أمي وانحَبَس الكلام.
وهذه الأيام، وأنا أجمعُ حبّات الزيتون من تحت الشجر، أتذكّر مشواري إلى أرض الحَرذونة في بلدتي البعيدة، وأستعيدُ كلمات جدّي:
- لازم تلعب بالتْراب وتْشم ريحتُه وتْوسّخ حالْها، عشانْ تْحبّ الأرض وتِتْعلّقْ فيها.
أمسحُ دمعة تسلّلت، وأتابعُ جمعَ حَبّات الزيتون بفَرح ونشاط.
إعتدال فلاح حسين
(الرامة)