المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية: قصة فشل حتميّ (تقدير موقف)
2016-04-23
يصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أوراق موقف دورية تتناول القضايا والأحداث الاستراتيجية الساخنة في مختلف المجالات بعد مناقشتها وتحليلها من قبل أعضاء وحدة تحليل السياسات في المركز. وآخر هذه الأوراق كانت ورقة موقف تناولت المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية. في ما يلي النص كاملاً:
مع استمرار تعثُّر المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، واصل وزير الخارجية الأميركي جون كيري تخفيض السقف المعلن المرجو منها؛ فبعد أن كان الهدف إثر موافقة السلطة الفلسطينية على استئنافها، أواخر شهر تموز/ يوليو، التوصل إلى اتفاق سلام شامل خلال فترة الأشهر التسعة المخصصة للتفاوض، استبدل كيري هذا الهدف، وصار يسعى للتوصل إلى "اتفاق إطار". لكن بعد فشله في تحقيق هذا الهدف أيضًا، بات الهمّ الأساسي للوزير الأميركي تمديد المفاوضات التي كادت فترتها الأصلية تنتهي من دون التوصل إلى شيء، بعد أن أخلّت إسرائيل بتعهدها المتمثِّل بالاستجابة لمطلب السلطة الفلسطينية الثالث الذي شكَّل غطاءً لقبول الرئيس محمود عباس استئناف المفاوضات.
لقد تنكرت إسرائيل لالتزامها بشأن الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين الذين يبلغ عددهم ثلاثين أسيرًا، منهم أربعة عشر من داخل الخط الأخضر، وحاولت ابتزاز الجانب الفلسطيني بربط إطلاق سراح هؤلاء بموافقة السلطة على تمديد المفاوضات لمدة عام. وما إن رفضت السلطة الفلسطينية هذا الربط حتى أعلنت إسرائيل عن مخطط لبناء 700 وحدة سكنية استيطانية جديدة في القدس الشرقية المحتلة. وفي هذه الأثناء تقدمت السلطة الفلسطينية بطلبات باسم دولة فلسطين للانضمام إلى خمس عشرة اتفاقية ومعاهدة دولية؛ ما يعني أنّ المفاوضات تسير في اتجاه الفشل، وهو الأمر الذي كان متوقعًا بسبب التعنت الإسرائيلي، والانقسام الفلسطيني، وتردُّد الموقف الأميركي وافتقاره إلى إرادة حقيقية في الضغط على إسرائيل.
الموقف الإسرائيلي
إنّ لبّ الصراع ضدّ الفلسطينيين، في نظر الحكومة الإسرائيلية، يدور على مصير أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة. ومن ثمَّة فإنّ هذه المناطق هي محور إستراتيجية حكومة نتنياهو المتعلقة بزيادة الاستيطان وتكثيفه إلى أقصى حدّ ممكن؛ بهدف تهويد أكبر مساحة ممكنة منها تمهيدًا لضمِّها عندما يتوافر مناخ دولي وإقليمي ملائم لذلك. ولقد بات واضحًا أنّ إسرائيل معنيَّة بالمفاوضات في حدّ ذاتها، وباستمرار ما يسمى "عملية السلام"، بدلًا من التوصل إلى معاهدة سلام. فهي تستعمل المفاوضات وسيلةً لتجنُّب العزلة، والمقاطعة، والعقوبات الدولية، ثمّ إنَّها تمسكت بمواقفها في جميع قضايا الصراع المركزية في هذه المفاوضات، ولم تتمكن الإدارة الأميركية من زحزحتها عن أيِّ قضيَّة منها قيْدَ أنملة.
وإنّ السلوك التفاوضي الإسرائيلي يقوم في جوهره على محاولة إجبار السلطة الفلسطينية على قبول البدائل التي تطرحها إسرائيل عبر الضغط والتهديد. وقد تمثَّلت أولى هذه التهديدات بإعطاء بنيامين نتنياهو وزراءَ في حكومته تعليماتٍ تقضي بوقف التعامل مع السلطة الوطنية الفلسطينية في الجانبين المدني والاقتصادي، مع استثناء التنسيق الأمني، ومحادثات السلام نفسها؛ ما يعني حجْب الإيرادات العامَّة المحلية عن السلطة الفلسطينية، وفرْض حصار على كلّ القطاعات الاقتصادية. ومن شأن هذين الأمريْن أن يعرِّضا الحكومة الفلسطينية لأزمة مالية كبيرة.
وتحظى سياسة حكومة نتنياهو تجاه المفاوضات، والاستيطان، والتعامل مع السلطة الفلسطينية، بدعم جميع أحزاب اليمين بما فيها الليكود، وإسرائيل بيتنا، والبيت اليهودي، في حين يتحفَّظ عن هذه السياسة كلّ من حزب "يوجد مستقبل" بقيادة يئر لبيد، وحزب "الحركة" بقيادة تسيبي ليفني. بيد أنه من غير المتوقَّع أن يؤدِّي تحفُّظ هذين الحزبين إلى أزمة في الائتلاف الحكومي في المستقبل القريب.
الموقف الفلسطيني
تمثَّل الرد الفلسطيني على الموقف الإسرائيلي تجاه تعطيل المفاوضات، بعد رفض الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى، باتخاذ ثلاث خطوات رئيسة هي:
1. الانضمام إلى خمس عشرة معاهدةً دوليةً
وقَّع الرئيس محمود عباس خمس عشرة اتفاقيةً دوليةً، مستفيدًا من وضعية "الدولة غير العضو" التي تحظى بها فلسطين في الأمم المتحدة. وقد أقدم عباس على هذه الخطوة في محاولة، على ما يبدو، للضغط على الجانب الإسرائيلي من أجل الإفراج عن الأسرى؛ ومن ثمَّة يكون له في ذلك ما يُبرِّر قبوله الاستمرار في المفاوضات. وما يعزّز هذه الشكوك أنّه تجنَّب توقيع طلب الانضمام إلى الجهة الأكثر أهميةً؛ وهي محكمة الجنايات الدولية التي من شأنها أن تعرِّض مسؤولين إسرائيليين إلى الملاحقة القضائية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية. وإنّ معظم المعاهدات والاتفاقات التي وقعتها السلطة، من جهة أخرى، لا تثير قلقًا لدى إسرائيل، وهي تتعلق بحقوق الإنسان، والقانون الإنساني الدولي، والبروتوكول الدبلوماسي.
لكنْ حتى لو توافرت نية السلطة وجديتها في الانضمام إلى هذه المعاهدات، فإنّ ذلك لا يعدو أن يكون خطوةً لممارسة حقٍّ من حقوقها وتفعيله، بوصفها ممثلًا لـ "دولة غير عضو" في الأمم المتحدة. فالقيادة الفلسطينية تفتقر، بدايةً، إلى إستراتيجية متكاملة لتحقيق مصالح الشعب الفلسطيني وأهدافه، تكون المفاوضات إحدى وسائلها وليس الخيار الوحيد فيها. وهذا الأمر من شأنه أن يضع كلّ الخطوات التي تُقدم عليها السلطة في خانة المناورات السياسية، يرافقها غياب إرادة جدية في استخدام الإمكانات المتاحة لديها وسائلَ تعزيزٍ لموقعها التفاوضي، بخاصة أنها اعتمدت منذ البداية سياسة التسويات الجزئية؛ إذ قبلت باستئناف المفاوضات في ظلّ استمرار الاستيطان، وفي غياب الضمانات الملزمة للطرف الإسرائيلي، وهو ما أوقعها في مأزقها الراهن.
2. تفعيل ملف المصالحة
قام الرئيس محمود عباس بتشكيل لجنة خماسية من قادة فصائل منظمة التحرير لزيارة قطاع غزة؛ بهدف بحث آليات إنهاء الانقسام وإنجاز المصالحة الوطنية، وهو أمر رحَّبت به حركة حماس، على الرغم من تشكيكها في أن تكون الخطوة مناورةً لتحسين شروط المفاوضات مع الطرف الإسرائيلي. فقد رفض القيادي في الحركة محمود الزهار أن تكون حماس لعبةً في مفاوضات تمديد المفاوضات. وهذا يتطلب من السلطة الفلسطينية إثبات جديتها في هذا المسعى، وتبني مصالحة إستراتيجيةً لا غنى عنها أو تراجع، لتحقيق المطالب الفلسطينية.
كما يترك غياب الوساطة العربية أيضًا تساؤلاتٍ متعلقةً بإمكانية إفضاء جُهد المصالحة، حتى لو كانت هذه المصالحة جدية، إلى نتائج ملموسة. فوجود سلطة الانقلاب في مصر وسط أجواء من التحريض على حماس يثير مخاوف لدى الحركة وسلطتها في غزة من تعاون فتحاوي مصري رسمي ضدّها بعد المصالحة.
لقد قامت مصر التي طالما اضطلعت بالوساطة في المصالحة الفلسطينية، منذ بداية آذار/ مارس 2014، بحظر نشاط حركة حماس على أراضيها وعدّها حركةً معاديةً؛ ما أوقف الاتصالات بين الطرفين، وأظهر التوتر جليًّا خلال الاعتداء الأخير على غزة عندما تجاهلت مصر حركة حماس، وتواصلت مع حركة الجهاد الإسلامي، بهدف استعادة التهدئة.
في ظلّ هذه الأجواء يجري الحديث عن إمكانية قيام الأردن بوساطة في ملف المصالحة الفلسطينية، وخصوصًا بعد مطالبات للحكومة، في البرلمان الأردني، بمبادرة من أجل تحقيق المصالحة بين فتح وحماس. وقد أثارت هذه الخطوة تساؤلاتٍ متعلقةً برغبة الأردن في تأدية هذا الدور، علمًا أنّ حركة حماس التي مُنعت من ممارسة نشاط سياسي في الأردن منذ إغلاق مكاتبها في هذا البلد، عام 1999، لم تعترض على ذلك إذ صرّح حسام بدران، الناطق باسم حماس في قطر، بأنّ الحركة لا تمانع من أن يأخذ الأردن دور الوساطة للمصالحة من حيث المبدأ، لكنه نفى في الوقت نفسه أن تكون وُجِّهت لحماس، بشأن هذا الموضوع، دعوة رسمية؛ لأنّ وضع ملف المصالحة بيد الأردن يحتاج إلى توافق بين فتح وحماس[1]، بخاصة في ضوء تمسُّك فتح، في ما يبدو، بالدور المصري لإتمام المصالحة كما عبرت عن ذلك في مواقف عديدة كان آخرها لقاء جمَع الرئيس محمود عباس بالرئيس المصري الموقَّت عدلي منصور على هامش اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة.
من أجل ذلك من المرجح ألَّا تكون الرغبة الأردنية المُعلنة إلَّا خطوةً تكتيكيةً هدفها "تعويم" الدور الأردني على الساحة الفلسطينية. كما أنّ موقف الأردن المتحمس لمبادرة كيري، ولمواصلة التفاوض، على الرغم من أشياء كثيرة، لا يساعده على الوساطة بين الفصائل الفلسطينية.
3. التوجه إلى جامعة الدول العربية
نجح الرئيس الفلسطيني محمود عباس في توجهه إلى جامعة الدول العربية لتأمين غطاء سياسي ومالي لمواقف السلطة الفلسطينية في حال تنفيذ إسرائيل تهديداتها. فقد أكَّد وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير في القاهرة دعْمهم الجهدَ الفلسطينيَّ في الحصول على عضوية جميع الوكالات الدولية المتخصصة، والانضمام إلى المواثيق والمعاهدات الدولية، بوصفه حقًّا أصيلًا أقرَّته الشرعية الدولية. إضافةً إلى ذلك تُزمع الدول العربية القيام بتحرك دبلوماسي مُكثَّف على المستوي الدولي لمساندة فلسطين في هذا التوجه، وإيجاد شبكة أمان مالية، ولا سيما أنّ قمّة الكويت أقرَّت لها بمبلغ مقداره 100 مليون دولار شهريًّا، مع تأكيد استمرار الموقف العربي على حالة رفضه المطلق ليهودية الدولة الإسرائيلية[2].
على الرَّغم من ذلك تحضر شكوك كبيرة متعلقة بمدى التزام العرب هذه المقررات، وخصوصًا المالية منها. فشبكة الأمان العربية أُقرَّت منذ عام 2010، ولم تستفدْ منها السلطة الفلسطينية، بل إنّ الدول العربية خفضت مساعداتها للسلطة؛ فاضطرَّت إلى الاقتراض من البنوك والمؤسَّسات المالية الدولية لتغطية العجز في موازنتها، ثمَّ إنَّها اضطرت بعد ذلك إلى إصدار سندات حكومية؛ بهدف جمع أموال تتيح إعادة هيكلة جزء من الديون الحكومية المستحقة للجهاز المصرفي الفلسطيني.
الموقف الأميركي
في ظلّ مواقف الطرف الفلسطيني والطرف الإسرائيلي المعلنة، يبدو أنّ هدف وزير الخارجية الأميركي جون كيري ينحصر حاليًّا في إنقاذ المفاوضات وإطالة أمدها، على الرّغم من أنه صرّح بأنّ مساعيه في هذا الملف لن تدوم طويلًا؛ بسبب عدم التزام الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي الجدية، ووجود تحديات أخرى قائمة في أنحاء مختلفة من العالم، علمًا أنه لمَّح إلى أنّ المسؤولية الكبرى عن انهيار المفاوضات تتحمَّلها إسرائيل، بخاصة أنّ التعثر حصل بسبب رفض حكومة نتنياهو إطلاق سراح الدفعة الأخيرة من الأسرى، وبإقرارها بناء 700 وحدة سكنية إضافية في المستوطنات، في حين جاء الموقف الفلسطيني ردَّ فعلٍ على الخطوات الإسرائيلية.
السيناريوهات المتوقعة
في ضوء ما تقدَّم، تواجه المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية أحد السيناريوهين التاليين:
1. استمرار المفاوضات
تستمرّ المفاوضات بين الطرفين وفقًا لأحد احتمالين؛ أحدهما موافقة إسرائيل، بضغط أميركي، على الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين، مقابل تعليق السلطة الفلسطينية إجراءات انضمامها إلى خمس عشرة معاهدةً دوليةً، أو عدم الانضمام إلى معاهدات أخرى، من أبرزها المحكمة الجنائية الدولية. وأمَّا الاحتمال الآخر فهو إذعان السلطة الفلسطينية لإملاءات أميركية وإسرائيلية، واستمرار المفاوضات من دون الحصول على ثمن حقيقي على الأرض، خلا ضمانات أميركية غير قابلة للتنفيذ؛ كأن يُجمَّد الاستيطان خلال فترة المفاوضات مثلما حدث في مفاوضات 2010، فإن حصل هذا الأمر قضى على أيّ مصداقية بقيت للسلطة، وزاد من حدة الانقسام الفلسطيني.
2. فشل المفاوضات
يترتَّب على هذا السيناريو فرْض عقوبات على السلطة الفلسطينية، وفي هذه الحال قد يتَّجه الأميركيون إلى التضامن مع إسرائيل، علمًا أنّ حكومة نتنياهو حجزت عائداتٍ وأموالًا خاصَّةً بالضرائب الفلسطينية، وهي تبلغ نحو 1.5 مليار دولار سنويًّا وتُعَدُّ أكثر من ثلث موازنة الحكومة الفلسطينية، في حين تُقدَّر المساعدات الأميركية بنحو 500 مليون دولار أميركي. لكنّ هذا السيناريو سوف يؤدِّي حتمًا إلى انهيار السلطة، وهو ما لا ترغب فيه كلّ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. من أجل ذلك يجب أن يتحوَّل هذا الخيار إلى سلاح بيد السلطة نفسِها حتى تُهدِّد، من خلاله، الاحتلال بتحميله المسؤولية، ولا سيما الأمنية منها، علاوةً على تحميله تكاليف احتلاله الأراضي الفلسطينية في مجالات أخرى كثيرة.