الموضوع الأهم والأكثر نقاشاً في الشرق، وليس فقط بين الأكاديميين ورجال الدين والسياسة بل بين كل فئات الشعب، هو موضوع علاقة الدين بالدولة. الاجتهادات والكتابات بهذا المجال من جميع الأطراف، دينية وعلمانية، لا تعد ولا تحصى، وعمرها من عمر الدين بالدولة في الشرق الاوسط. حتى هذه اللحظة لم نجد الحل المفلج للقلب والداعم لتطور الشعوب والدول. نحن ما زلنا نراوح مكاننا منذ مئات السنين ولم تجرء أية دوله عربية على الخوض بنقاش عميق وجدي وبناء حول علاقة الدين بالدولة. هذا يعلل ايضا الالتفاف على هذا الموضوع الهام باعتماد معظم الدول العربية، ان لم تكن جميعها، في دساتيرها جملة مفادها ان الشريعة الاسلامية أساسا للتشريع وان الاسلام هو الدين الرسمي للدولة مع ان معظم الدول العربية يدعي العلمانية وينكر الثيوقراطية.
احدا لا يستطيع ان ينكر ان الدين الاسلامي هو جزء أساسي من حياة البشر بالشرق. وكذلك أحداً لا يستطيع ان يتجاهل ان العلاقة المبهمة بين الدين والدولة هي السبب الأساسي لعدم التحاقنا في الشرق بقطار الحداثة الكوني ومشاركتنا الفعالة والواضحة برسم معالمه. مجازاً ما زلنا نتابع كل حديث وجديد في هذا الكون بسؤال بسيط لكنه معبر دون غيرة عن حالنا وحال الأمة! هل هذا حرام ام حلال؟ هذا الأمر الدال على الجهل والتقوقع اسبابه كامنه في العقل العربي كما وضح وشرح الدكتور محمد شحرور في العديد من كتاباته. الدكتور شحرور يوضح ان العقل العربي:
ا. عقل ترادفي .. والعقل الترادفي غير دقيق مما جعل المسلمين يقرأون القرآن على مدار السنين ولكن أكثريتهم الساحقة لم تفرق بين الأب والوالد وبين الام والوالدة وبين النساء جمع نسيء ونساء "جمع" امرأه وقس على ذلك.
ب. العقل العربي عقل قياسي ..هناك أصل يقيس عليه. المسلم ما زال وبعد ١٤٠٠ سنة يعتبر عصر الصحابة هو الأصل الذي نقيس عليه اي امر في حياتنا اليوم! لم القياس على هذا والاصل في الأشياء الحلال؟ ان الحرام استثناء وان القياس هنا هراء.. القياس يكون بان نقيس واقع على واقع موجود.
ج. العقل العربي عقل اتصالي. .. يسأل عن المسموح والممنوع ولا يسأل عن الحق والباطل وهذا يتناسب مع المستبد. هاجس الخوف جعلنا نعيش في حالة طوارئ نعيشها منذ مئات السنين حتى بتنا لا نشعر بها. العقل العربي نشأ في ظل نظام استبدادي، وهنا نتحدث عن العقل المكون اجتماعيا وسياسياً وفكرياً وليس عن العقل الفطري.
هذا العقل هو ايضاً الذي اقتنع وآمن بالفهم الخاطئ والمحرف للنص المقدس الذي نشره شيوخ الجهل وعلماء الفتنة حول مفهوم الحاكمية والبعد التاريخي للنص. وهو العقل ذاته الذي رسخ في قلوب وأذهان الأمة مقولة الاسلام السياسي الذي تتدعي ان الاسلام دين ودوله.. ونسي هذا العقل ان يسأل كيف بنا ان ندعي ان الدين الحنيف ديناً ودولةً في الوقت الذي يذكرنا النص المنزل على الرسول الأعظم ان لا اكراه في الدين! وكل متطلع يدرك ان المؤسسة الوحيدة بالكون التي تملك اجهزة وأدوات اكراه هي الدولة. الدولة تسن القوانين وتضع المعايير وقضائها يسهر على احترام القانون والمشي بحسبه والشرطة والأجهزة الأمنية تعمل على تثبيت القانون على الارض. الدين لا يملك أدوات ومؤسسات واجهزة اكراه لهذا حظرنا الخالق من العبث بالرسالة السماوية. وما المناداة بالدولة الإسلامية وشعار الاسلام هو دين ودولة من متعطشي ألقوه والطغيان المتخفون تحت عباءة الدين الا عبث بحكمة الرب وتجاوزاً لأحكامه ومواعظه.
الرقص على الحبل بموضوع الدين والدولة لم يقتصر فقط على مجموعات الاسلام السياسي بل قام به اليسار واليمين، العلماني والمتحفظ التقليدي وتفنن الجميع في اخراج التعليلات لتكتيكاتهم السياسية بهذا الموضوع.
·اليسار بكل اطيافه وخصوصاً القسم الأكبر منه الذي "اعتنق" الماركسية واللينينية وأصبحت " مكته" موسكو، قاوم التيار الديني والإسلام السياسي بكل ما استطاع من ايدلوجيا وحجج ورفع شعار فصل الدين عن الدولة عالياً وأصبح هذا الشعار الأيدولوجيات الأساسية في الطرح اليساري العربي ولا ابالغ ان قلت ان في فترة سبعينات القرن الماضي كان هذا الشعار موازياً لشعار الاسلام دين ودولة الذي رفعه الاسلام السياسي. وركز اليسار العربي على أهمية بناء الدولة العلمانية لكنه اخطأ كثيراً عندما رسخ بتصرفاته وكتاباته وشعاراته، عن قصد او عن جهل، ان العلمانية تعني الإلحاد. وأصبح المصطلحان يستعملان كمرادفين رغم الاختلاف الواسع بين الملحد والعلماني. حاول اليسار في منتصف ثمانينات القرن الماضي تعديل خطأه ومصالحة المجتمع المتحفظ في الشرق وبدأ كتابه وقادته يتكلمون عن " الاسلام اليساري" او "الاسلام المعتدل" وهنا اخطأ اليسار مرة اخرى وابتعد عن الخوض العميق والجدي في النقاش البناء حول العلاقة المتبادلة بين الدين والدولة. اخطأ اليسار لأنه تغاضى عن نقطتين أساسيتين يطرحها الاسلام السياسي بكل اطيافه ولا يختلف عليهم لا متشدد ولا معتدل، لا سلفي ولا متنور وهما الحاكمية والبعد التاريخي للنص كما اظهر الدكتور نصر حمد ابو زيد في دراساته حول الاسلام السياسي في الشرق. هذان المصطلحان هم حجر الزاوية في النقاش حول العلاقة بين الدين والدولة ومستقبل هذه العلاقة.
· البرجوازية القومية العربية التي حكمت معظم الدول العربية بعد دحر الكولونيالية الغربية من الشرق وظفت الدين كوقود لمحرك تشبثها بالحكم وترسيخ فكرتها للدولة القومية. بداية حاولت القيادات القومية الشابة احتواء كل أطراف الشعب ورغم توجهها السياسي العلماني الا انها بدأت في ترسيخ الشريعة الإسلامية مصدر التشريع الأساسي للدولة واقامت وزارات اوقاف أسوة بالدول الثيوقراطية لاحتواء التيار الديني ومراكز عمله ومصادره المالية من وقف وزكاة من جهة ولمراقبته وضبط تحركاته وتأثيره بالمجتمع من جهة اخرى. الجيل الثاني من القوميين خطى خطوة اخرى لدغدغة مشاعر الأكثرية الاسلامية المحافظة في الدول العربية وتقرب اكثر من تيار الاخوان المسلمين كما فعل السادات في مصر والعاهل الأردني في المملكة الهاشمية وأصبحوا يراعون ظهورهم بالجوامع في المناسبات الرسمية وركز اعلامهم على التقوى والدين وعلى صورة الرئيس المسلم التقي الداعم لبناء المساجد والمؤسسات الدينية المختلفة. وافحلوا القوميون بمحاولات احتواءهم للدين بترويج اعلامهم الرسمي لمصطلح " الحضارة الاسلامية" رغم علمهم ان للبشرية حضارة واحدة هي الحضارة الإنسانية جمعاء ولا وجود لحضارة مسيحيه او حضارة اسلاميه او حضارة بوذية كما يؤكد عليه الفيلسوف البحراني الدكتور محمد جابر الأنصاري في احدى مقالاته الشهيرة حول صراع الحضارات. الحضارة الإنسانية هي مجموع ما وصل اليه ابناء البشر من مختلف الثقافات من إنجازات علمية حضارية ينعم بها ويستعملها كل البشر في المعمورة. وكلام هذه الطبقة السياسية عن ان الثقافة العربية هي ثقافة اسلاميه كان انزلاق اخر بمحاولتهم لإيجاد مخرج لمعضلة الدين والدولة في الشرق. الثقافة الاسلامية هي الثقافة الطاغية والأكثر تأثيراً في العالم العربي لكنها اولا لم تأتي من فراغ بل بنيت على أعمدة الثقافة العربية قبل الاسلام وثانيا هي طعمت بالثقافة المسيحية الشرقية وبثقافات اخرى كانت وما زالت فاعلة ومؤثرة في الشرق العربي. سياسة الاحتواء هذه فشلت والبرهان على فشلها الذريع ليس فقط بأننا في العالم العربي لم نفلح الا ببناء "نصف دول" ولم يفلح ايً كان في بناء اوطان مبنية على مواطنة حقيقية لعموم الشعب. واتى ما يسمى بالربيع العربي ليثبت هذا الفشل الذريع ويعيد مرة اخرى السؤال الأهم في مصير المنطقة: أين نحن من الدين والدولة؟
· الفئة الثالثة من النخبة السياسية العربية آلتي حاولت وما زالت تحاول الرقص على حبل الدين والدولة في الشرق هم ملوك الخليج العربي. منذ تنصيبهم ملوك على مملكات هلامية، بناها لهم الكولونيالي الغربي قبل رحيلة ليبقي له قدم وذراع طويلين بالشرق، وهم يعتبرون أنفسهم قادة شرعيون للأمة الاسلامية. فتنحلوا اسماء مثل " خادم الحرميين" لتثبيت " شرعيتهم الاسلامية" ولم يكتفوا بهذا القدر من التخفي بعباءة الدين بل دعموا بما أوتوا من مال وطاقة كل حركات الاسلام السياسي وصولاً الى دعم حركات التكفير والارهاب الاسلامي واحتووها. هذه الطبقة السياسية أسست دول ثيوقراطية كالمملكة العربية السعودية وما زالت تحكم باسم الدين وبأحكام الشريعة مدعومة من ثلة كبيرة من الشيوخ والعلماء والداعيين الذين يروجون لسياساتهم ونظرتهم عن علاقة الدين بالدولة. ورغم كل هذا التداخل وتبادل الأدوار بين الدين والسياسة في الخليج العربي لا يمكن القول بان هذا النوع من أنظمة الحكم وادارة الدولة هو الحل الأفضل والجواب الصائب على العلاقة بين الدين والدولة. أنظمة الحكم في الخليج العربي واخص بالذكر حكم ال سعود في السعودية هو اقرب الى حكم الملوك الأوروبيين في العصور الوسطى بالعلاقة الجدلية بين الدين والدولة.
رغم هذا ألكم والزخم بتديين السياسة وتسيس الدين في الشرق الاوسط على مدار التسعة عقود الماضية لا يمكن لنا ان نتحدث عن حل مرضي لمعضلة الدين والدولة في الشرق. واليوم وبعد انكشاف حقيقة الاخوان والمسلمين وبرنامجهم السياسي لأسلمة المجتمع وما تمخض عن الاسلام السياسي من حركات ارهاب تدعي رفع شعار الاسلام الحقيقي وتعمل على بناء الدولة الاسلامية حسب منظورها وافلاس اليسار العربي واضمحلال التيار القومي وفشل كل محاولات الاحتواء والاقصاء للآخر من قبل طرفي الصراع ما زال السؤال الأهم عن علاقة الدولة والدين بالشرق يبحث عن جواب!
الحكيم ليس هو الانسان الذي يحاول جم عمره خلق حل لمعضلة ما... الحكيم هو الانسان الذي يبحث عن حلول لمعضلات مشابه لمعضلته ويحاول تركيب حل لمعضلته الخاصة مما وجده الآخرون من حلول اخذاً بعين الاعتبار خصوصياته ويكرس بقية وقته لتطوير هذا الحل الى الأفضل.
تسيس الدين وتديين السياسة ليس بمخترع شرق أوسطي وهذه العلاقة ايضا ليست خصوصية اسلاميه بحته. أوروبا المسيحية عايشت هذه الحالة وهذا المزيج والخلط بين الدين والسياسة على مدار اكثر من تسعة مائة سنة - فترة العصور الوسطى - ولم تنتهي هذه العلاقة والصراع السياسي الديني بانتهاء العصور الوسطى عام 1500 بل تبعتها حروب عديد تكللت بحروب طائفية بين الكاثوليك والبروتستانت دارت اكثر من ثلاثين عام وانتهت في سنة 1648 بعقد صلح الفستفالين. بداية نهاية تديين السياسة وتسيس الدين في الغرب المسيحي بدأت بعد نجاح الثورة الفرنسية (1789 -1799) وإعلان فصل الدين عن الدولة كاملاً وتأسيس فرنسا العلمانية.
بعد هذا الحدث العظيم وبعد انقضاء حوالي 1300 عام من مزيج قاتل وعلاقة مدمرة بين الدين والدولة في الغرب المسيحي، انتقل الغرب الى نوعين من العلاقة البناءة بين الدين والدولة. علاقة مبنية على الاحترام المتبادل وعلى القاعدة الثابتة بان الوطن للجميع والدين لله.
1. النوع الاول المسمى التجربة الفرنسية المبنية على فصل كامل بين الدين والدولة وحصر نشاط الدين في بيوت العبادة وتحريم تدخل الدين بالسياسة بأية نوع كان. هذه التجربة التي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا لا تناسب شرقنا الاوسطي ومجتمعنا المحافظ لأسباب عديده لا يتسع هذا المقال لحصرها وتحليلها لكن لا بد من الإشارة الا ان الدين بالشرق العربي مكون أساسي من الهوية القومية والفصل الكامل بين الحياة السياسية والدينية لن تلقى استحسان الأكثرية من ابناء المجتمع. وان اصرت النخبة السياسية على تثبيت هذه التجربة كما طالب اليسار العربي في سبعينات القرن الماضي فهذا سيعني انشقاق واسع في صفوف المجتمع العربي والخاسر الوحيد سيكون المجتمع بأكمله. ما نراه اليوم من صراعات بين منظمات الارهاب الاسلامي وبعض الدول في الشرق الاوسط ستكون الحالة الطبيعية التي سوف تعيشها كل الدول التي تحاول ان تثبت الفصل الكامل بين الدين والدولة وسيستمر هذا القتال بين أطراف الصراع عشرات السنين تهدر به الدماء ومصادر معيشة الأمة.
2. التجربة الثانية هي التجربة الألمانية التي بنيت على علاقة وديه بين الدين والدولة وإعطاء الكنيسة الحيّز الذي تريده لعملها الديني والخيري. وفق التجربة الألمانية تحافظ الكنيسة على أملاكها وعلى نشاطها في مجال التعليم والصحة والعمل الخيري كما وانه تم الاتفاق على الإبقاء على تعليم الدين في المدارس وإعطاء الكنيسة دور في نقاش الامور المركزية التي تعني المجتمع. واليوم أصبحت الكنيسة العمود الفقري الثاني الذي يقف عليه المجتمع الألماني بعد الدولة. والكنيسة جزء هام في مؤسسات المجتمع الألماني وتلعب دور مركزي في مجالات اجتماعيه واخلاقية واجتماعيه-سياسيه. والكنيسة تحاول أخذ دور سياسي مؤثر في المجتمع الألماني عبر انخراطها كمؤسسة مجتمع مدني في حياة الشعب الألماني وليس عبر حزب سياسي يخصها كما هو الحال عند الاسلام السياسي في الشرق الاوسط. ورجال الدين ينتمون الى جميع الأحزاب السياسية الألمانية ولكن بدخولهم الى عالم السياسة عليهم إنهاء دورهم وعملهم الديني. من هذه الفكرة تطورت ايضا الأحزاب المسيحية المحافظة وليس فقط في المانيا بل في معظم الدول الأوروبية. رغم هذه العلاقة الودية المبنية على الاحترام المتبادل لم تكن هناك حاجه لإقامة وزارة أديان لإدارة هذا الشأن. الكنيسة تدير مؤسساتها بنفسها وتدفع لموظفيها من دخلها الخاص ومن اشتراكات أعضاءها التي تقوم وزارة مالية الدولة باقتطاعها من معاش اعضاء الكنائس وتحويله الى الكنيسة المختصة. هذه العلاقة السيامية بين الكنيسة والدولة في المانيا تعود على الشعب الأماني بخير وهي احد أسباب ترأسهم لقطار الحداثة الكوني. التجربة الألمانية تجربه يمكن تطبيقها بتعديلات خفيفة في مجتمعاتنا الشرق أوسطيه اخذين بعين الاعتبار خصوصياتنا العربية الإسلامية وهي برأيي الحل الأفضل لمعضلة علاقة الدين بالدولة.
بقي لي ان اثبت في النهاية ان البحث عن حل لعلاقة الدين بالدولة في الشرق الاوسط هو اهم جسور العبور الى مرحلة تاريخية جديدة في حياة الشعوب بالمنطقة والعامل الأساسي للخروج من قوقعة الرجعية والعدمية التي تخيم على شرقنا. البحث عن الحل لا يمكن ان يتم بإقصاء التيار الديني بشقيه السياسي والتقوي بل يداً بيد بمشاركة كل اطياف المجتمع. المملكة المغربية بدأت كأول دولة عربية بوضع قطار إيجاد حل لهذه المعضلة على السكة الصحيحة وتبعها تونس بتحول حركة النهضة من فرع لحركة الاخوان المسلمين العالمي الى حزب إسلامي محافظ يعمل مع القوى السياسية الاخرى ضمن دستور الدولة بما به من مصلحة للشعب التونسي.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف