الصفقات التي تعقد تحت مسمى الاتفاق تهدف إلى تكريس القطبية الثنائية في المشهد السياسي الفلسطيني
لم تدم «رسائل الغزل» المتبادلة بين حركتي فتح وحماس طويلاً. وسرعان ما تلاشى صدى التصفيق الذي قوطعت به كلمة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل التي ألقيت في المؤتمر السابع لحركة فتح؛ لتعود الأمور بين الحركتين إلى وضعها القديم على وقع الانقسام وتداعياته.
بعض المراقبين وجد في هذه الرسائل مقدمة لتغيير فعلي على الأرض يمهد لإنجاز المصالحة المستعصية بين فتح وحماس، واعتبر التسهيلات التي قدمتها «حماس» لأعضاء المؤتمر الغزيين انحيازاً للرئيس عباس في وجه معارضيه، وخاصة أنها منعتهم من تنظيم أية فعالية يعبرون فيها عن رفضهم لآليات عقد المؤتمر وتشكيلته.
فيما رأى آخرون أن تلك التسهيلات كانت تنفيذاً لاتفاق بين الحركتين برعاية ودفع إقليميين، وأن المسألة برمتها محصورة بموضوعة عقد المؤتمر ليس إلا، وربما هذا ما يفسر الانتقادات الحادة التي صدرت عن حركة حماس لما جاء في كلمة أبو مازن في المؤتمر.
أيام «العسل» المعدودة بين الحركتين أكدت على الأقل أن لدى كل منهما القدرة على وقف الاحتراب الإعلامي والتركيز على تنقية الأجواء الفلسطينية الداخلية. لكن المشكلة أن هذه القدرة لم تظهر إلا بدفع خارجي؛ وتجاه مهمة واحدة محددة هي انعقاد مؤتمر فتح الذي ما أن أنجز حتى عادت التجاذبات بينهما.
قبل وقوع الانقسام الحاد بعام واحد، توصلت مكونات الحالة الفلسطينية إلى بلورة «وثيقة الوفاق الوطني» التي أسست لها مبادرة الأسرى ،وتتضمن محددات برنامجية وتنظيمية واضحة تدفع نحو إخراج الوضع الفلسطيني من الأزمات المتراكمة التي يعانيها. ووقع هذه الوثيقة جميع القوى والفصائل الفلسطينية. لكنها لم تجد طريقها للتنفيذ لأسباب كثيرة أبرزها إصرار كل من القطبين اللذين أنتجتهما انتخابات «التشريعي» على الإنحياز لسياساته واعتباراته الخاصة. وبدلاً من التزام قرارات الإجماع الوطني الذي عبرت عنه الوثيقة، لجأ الطرفان إلى مفاوضات ثنائية أنتجت «اتفاق مكة» الذي على اساسه تشكلت الحكومة الفلسطينية العاشرة برئاسة إسماعيل هنية. وكان واضحاً أن الاتفاق مزروع بالألغام التي سرعان ما انفجرت مع قيام حركة حماس بالسيطرة المسلحة على قطاع غزة في 14/6/2007.
ومنذ «اتفاق مكة» وحتى «اتفاق الشاطئ» 2014؛ كانت المعضلة الكبرى أمام استعادة الوحدة الفلسطينية تتلخص في هذه الاتفاقات الثنائية، على الرغم من توصل الحوارات الوطنية الشاملة إلى قرارات حاسمة بشأن إنهاء الانقسام وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني وتوحيد البرنامج الوطني التحرري.
وفي كل من هذه الاتفاقات الثنائية تسود المحاصصة بين حركتي فتح وحماس ضمن حسابات مصلحية فئوية. ومع كل اتفاق يتحضر كل منهما للتخلص من استحقاقاته وفق تقديرات ذاتية تنشط محاولاته في تعزيز مواقع نفوذه في السلطة.
لهذا السبب يتم التأكيد أن المدخل الصحيح لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة هو التزام قرارات الحوارات الوطنية الشاملة لأنها بالأساس تبتعتد عن المحاصصة من خلال تأكيدها على مبدأ الشراكة الوطنية في اتخاذ القرار كما هو الأمر في المواجهة مع الاحتلال؛ وتضمن هذه القرارات معالجة الأسباب السياسية والتنظيمية التي أدت للانقسام وبالتالي تأتي استعادة الوحدة على أسس راسخة ربطاً بتحقيق المصلحة الوطنية العليا، على العكس تماماً من الصفقات الآنية التي يعقدها من حين لآخر طرفا الانقسام تحت تأثير ظرفي سرعان ما يتبدل محلياً وإقليمياً وينتهي بذلك مفعول هذه الصفقات ليعود الاحتراب بين الطرفين أشد مما كان.
والأهم من ذلك، أن هذه الصفقات تهدف إلى تكريس واقع القطبية الثنائية في المشهد السياسي الفلسطيني؛ في ظل محاولة محمومة من كل طرف لإضعاف الآخر؛ وهو ما أوصل العلاقات الوطنية إلى أسوأ حالاتها مع تمدد مناخات الاحتراب والتجاذبات الحادة. ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك سلباً على الحركة الوطنية الفلسطينية وقدرتها على مواجهة الاحتلال وسياساته التوسعية والعدوانية.
ما يساعد على استمرار هذا الواقع وتداعياته الكارثية غياب «القطب الثالث» الذي من المفترض أن تمثله القوى الديمقراطية واليسارية الفلسطينية في إطار موحد بما يعيد التوازن للمشهد السياسي الفلسطيني، ويضع حداً للآثار السيئة لواقع القطبية الثنائية القائمة. وعلى الرغم من أن خمس قوى ديمقراطية ويسارية اجتمعت في إطار «التحالف الديمقراطي» قبيل الانتخابات المحلية، إلا أن تعميم هذه التجربة واستمرارها وتعميقها مهمة وطنية لا تحتمل التأجيل.
لقد انتجت الانتخابات التشريعية الماضية نظاماً سياسياً فلسطينياً برأسين متقابلين، لأنها تمت وفق نظام انتخابي مختلط ما بين التمثيل النسبي والدوائر المغلقة. لينتقل النظام من حالة القطب الواحد إلى الثنائية، وهو ما يدفع للتأكيد على ضرورة اعتماد التمثيل النسبي في جميع المحطات الانتخابية لمؤسسات منظمة التحرير والسلطة بما ينتج نظاماً سياسياً متوازناً ومعبراً عن الواقع السياسي والاجتماعي الفلسطيني بعيداً عن هيمنة الطرف الواحد أو القطبية الثنائية المتصارعة.
وإلى ذلك الوقت، تستطيع الحالة الفلسطينية بما فيها حركتا فتح وحماس أن تصوب واقع العلاقات الوطنية الداخلية وتنقي أجواءها باعتماد الحوار البناء والابتعاد عن التوتير والاحتراب والتركيز على القواسم المشتركة وأهمها المصلحة الوطنية في مواجهة مخاطر السياسات التوسعية الإسرائيلية وتوحيد الجهود الميدانية في إطار هذه المواجهة. وهذه جميعها مهام ماثلة للعيان واستحقاقاتها ممكنة التنفيذ ولا تحتاج ضغطاً من اي طرف خارج المعادلة الفلسطينية.. ما هو مطروح ليس «تعايشاً» مع الانقسام بل خفض لمظاهره وتداعياته والتفات للأولويات الوطنية، وهذا بحد ذاته يساعد على التقدم نحو إنهاء الانقسام في ظل اجواء وعلاقات وطنية مسؤولة وسليمة.
ومع ذلك، فإن مهمة إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الراسخة تحتاج إرادة سياسية وفق قاعدة تغليب المصالح الوطنية على الحسابات الضيقة والفئوية، وعلى قاعدة القناعة العملية بالشراكة الوطنية على اساس «شركاء في الدم.. شركاء في القرار والمواجهة».
محمد السهلي

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف