أصبحت مسألة اللاجئين وحق العودة قضية هامشية نسبياً بعد مرور 69 عاماً على نكبة فلسطين. إذ إنها مُغيّبة عن النقاشات السياسية على المستوى الرسمي، ولا تكاد تذكر على المستويات التي هي أقل من ذلك إلا لماما ومن باب "رفع العتب" كواحدة من قائمة طويلة من "القضايا العالقة". وبالرغم من أن اللاجئين لا يزالون في الشتات، بعضهم في مخيمات اللجوء وبعضهم الآخر في شتى أصقاع العالم، وعلى الرغم من تدهور أحوالهم والمآسي التي حلت بهم في مخيمات سورية ولبنان، إلا أن مسألة اللاجئين وحقوقهم لم تتصدر قائمة المواضيع المهمة والملحة التي تحتاج إلى حل.
تطور التهميش
يمكن نسب هذا التهميش جزئياً للتطورات التي حدثت في المنطقة منذ عام 2011، والتي أدت إلى انخفاض مستوى الاهتمام في الشأن الفلسطيني بشكل عام على المستويين الدولي والإقليمي. إلا أن تهميش موضوع اللاجئين هو أيضاً، وبالأساس، نتاج للسياسة التي تنتهجها القيادة الفلسطينية تجاه هذه القضية المركزية. فبعد اتفاق أوسلو وتأسيس سلطة الحكم الذاتي المحدود في غزة وأجزاء من الضفة الغربية، انتقل مركز الثقل السياسي الفلسطيني من الشتات إلى الأراضي المحتلة. ومع هذا الانتقال أصبحت السياسة الفلسطينية تدور حول محورين: محور إدارة السلطة، ومحور المفاوضات مع إسرائيل. أُديرت السلطة بأسلوب يخلط بين الفساد والسياسات الاقتصادية النيوليبرالية. أفضى هذا الأسلوب إلى خلق مناخ اجتماعي طغت عليه النزعات الفردانية والاستهلاكية وأدى إلى عزوف الكثير من الطبقات عن النشاط السياسي. أما محور المفاوضات مع إسرائيل فقد عني بالأساس بالملفات المهمة لإقامة الدولة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
أدى التركيز على هذين المحورين إلى تجاهل موضوع اللاجئين وحق العودة من طرف المستوى الرسمي الذي رأى بهما عبئاً زائداً. تم هذا بالتوازي مع عملية تفريغ منظمة التحرير الفلسطينية من أي صلاحيات أو ميزانيات وتحويلها لجسم خاو لم يبق منه إلا ماضيه النضالي وشرعيته الشعبية. أصبحت قضية اللاجئين القضية المنسية بعد أن كانت القضية المركزية التي كانت هي الدافع الرئيسي لتأسيس الفصائل السياسية التي سيطرت على منظمة التحرير، والمحرك الأهم لعملها السياسي والعسكري.
تحول موضوع اللاجئين إلى واحد من ملفات المفاوضات الخمسة للوضع النهائي التي من المفترض أن تتفاوض عليها القيادة الفلسطينية مع إسرائيل (الملفات الأخرى تشمل القدس، المستوطنات، الحدود، والمياه) وفقاً لإطار اتفاقية أوسلو. الموقف الرسمي الفلسطيني في هذه المفاوضات هو اقتباس حرفي للبند الذي يختص بموضوع اللاجئين في مبادرة السلام العربية الذي يطالب "بالتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194".
الموقف الرسمي الفلسطيني
اسمياً، يرتكز الموقف الفلسطيني الرسمي في هذه المفاوضات على القانون الدولي، إذ إنه يتبنى القرار 194 الذي يقضي بالسماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم. فعلياً تركّز القيادة الفلسطينية (بحسب جمهور المستمعين طبعا) على كلمتي "يتفق عليه"، إذ إن الطرف الآخر لهذا الاتفاق هو إسرائيل، الأمر الذي يضع حق العودة تحت سقف ما تقبل به إسرائيل. يضاف إلى ذلك العديد من التصريحات التي صدرت من قبل الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، يطمئن فيها إسرائيل أن حل مسألة اللاجئين لن يؤدي إلى تغيير تركيبتها السكانية، أي أنه لن يصر على حق العودة، وأن أي عودة للاجئين سوف تكون صورية فقط.
هذا التهميش، والتصريحات المتتالية للرئيس الفلسطيني وغيره في القيادة الفلسطينية حول الحاجة "للمرونة" في قضية اللاجئين يدل على أن قضية اللاجئين تحولت من قضية محورية إلى ملف هامشي تكمن قيمته في إمكانية استعماله كجزء من التنازلات التي سوف يقدمها المفاوض الفلسطيني لكي ترضى إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية. الكثير من القرائن تدل على أنه هذا هو الموقف الرسمي الفعلي. فمثلا، في السنوات الخمس الماضية، حاولت السلطة الفلسطينية إعلان دولة تحت الاحتلال وقامت بمحاولات للانضمام إلى مؤسسات دولية وبعض النشاطات على المستوى الدولي، إلا أن هذه النشاطات لم تتطرق إلى قضية اللاجئين. بل إن خطة إعلان الدولة نفسها لم تحظ بدراسة معمقة بما يتعلق بأثرها على اللاجئين وحق العودة.
الموقف الإسرائيلي
مقابل هذا التهميش، تعمل إسرائيل جاهدة على إضعاف الموقف الفلسطيني وتصفية قضية اللاجئين على كافة المستويات.
دولياً، نجحت إسرائيل في إقناع عدة دول بتغيير موقفها من القرار 194 الذي تقوم الجمعية العامة بالتصويت على مشروع قرار يعيد تأكيده في كل عام. فقد غيرت بعض الدول موقفها إلى "ضد"، فيما تحول بعضها من التأييد إلى الامتناع. كما أن إسرائيل تقف –تارة بشكل رسمي وتارة بشكل غير رسمي- وراء حملات عدة تستهدف اللاجئين والمؤسسات التي تعنى بهم. الحملة التي تهدف لتصفية منظمة غوث وتشغيل اللاجئين (UNRWA) هي مثال لهذه الحملات. حيث يظن القائمون على هذه الحملة أن قضية اللاجئين ما زالت قائمة بسبب وجود وكالة الغوث، وأن تصفية وكالة الغوث سوف يؤدي إلى نسيان حق العودة. في نفس الوقت، وعلى مستوى العلاقات الثنائية مع دول العالم، تثابر إسرائيل على دفعهم إلى الاعتراف بها كدولة يهودية (أو بصيغة أخرى الدولة القومية للشعب اليهودي). وقد يبدو هذا الطلب غريبا للوهلة الأولى، إذ إن تعريف طبيعة الدولة أو صفاتها هو شأن داخلي بحت حيث إن دول العالم تعترف بدولة أو حكومة ما أو تحجب هذا الاعتراف، ولا قيمة قانونية للاعتراف بصفة أو تسمية معينة. لكن الهدف الأساسي من وراء هذا الاعتراف هو خلق إجماع دولي بشأن "حق" إسرائيل في أن تكون "دولة يهودية"، الذي يعني أن هذه الدول تعترف بشكل مبطن بـ"حق" إسرائيل برفض عودة اللاجئين و"حقها" بالتمييز العنصري ضد الفلسطينيين الذين يحملون جنسيتها.
داخلياً، تقوم إسرائيل باتخاذ إجراءات ملموسة لتحسين موقفها التفاوضي توخيا لأي مفاوضات مع الفلسطينيين. فقد قامت في عام 2009 بتغيير قوانين الأراضي للسماح ببيع جزء كبير من أملاك اللاجئين (التي كان أغلبها حتى ذلك العام مسجلا كأملاك دولة)، الأمر الذي سوف يزيد من تعقيد أي مفاوضات لاستعادتها. وقد أقامت أيضاً دائرة خاصة لتسجيل أملاك اليهود الذين اضطروا إلى الهرب من الدول العربية التي كانوا يقيمون فيها مثل العراق ومصر وسورية نتيجة لتأسيس إسرائيل بذريعة سياسات المضايقة التي اتبعتها الحكومات آنذاك. لا تهدف إقامة هذا السجلات إلى مساعدة اليهود ذوي الأصول العربية باسترجاع ممتلكاتهم، بل إن هدفها الوحيد هو توثيق هذه الممتلكات وضياعها لاستعمالها لصد المطالب الفلسطينية باستعادة الممتلكات التي تركها اللاجئون الفلسطينيون. فبحسب هذا المنطق، تصبح النكبة جزءاً من عملية تبادل سكان وتبادل ممتلكات لا عمليات تهجير ونهب، وبناء عليه، فإن الوضع الحالي يمثل "حلاً عادلاً".
التمسك بالعودة
لكن بالرغم من هذه المحاولات العديدة لإبعاد قضية اللاجئين، وبالرغم من تواطؤ القيادة الفلسطينية الرسمية، إلا أن قضية اللاجئين وحق العودة لا يزالان في وجدان شريحة كبيرة من الفلسطينيين. فحق العودة هو أحد المطالب الثلاثة لحملة المقاطعة ضد إسرائيل التي هي أضخم حملة أطلقها وقادها المجتمع المدني الفلسطيني. تنامي هذه الحملة وانتشارها عربياً وعالمياً يعني أيضاً زيادة التوعية عن قضية اللاجئين على هذه المستويات وخلق فرص لإثارة الموضوع. يمكن أيضاً خلق فرص أخرى للتكلم عن الموضوع وزيادة التوعية وتدعيم حق العودة والتصدي لتهميشه. إذ يمكن الربط بينه وبين العديد من الأحداث التي تتصدر الأخبار والنقاشات. فويلات الحرب الأهلية في سورية تطاول أيضا اللاجئين الفلسطينيين، ويجب علينا التذكير أن الحل الأمثل لهم هو تمكينهم من العودة إلى وطنهم. كما يجب أن نشدد على أن مشكلة الكثافة السكانية ونقص المياه والمجال الحيوي في قطاع غزة هي (بالإضافة إلى السياسات الإسرائيلية) نتيجة لوجود أكثر من مليون لاجئ يعيشون في مخيمات في هذه البقعة الصغيرة من الأرض، والحل الوحيد الممكن لهذه الأزمة على المدى البعيد هو عودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم التي تبعد بضعة أميال عن غزة. إضافة إلى زيادة التوعية، يجب العمل على إنهاء حالة التهميش والإهمال التي تعاني منها المخيمات خصوصا في الضفة الغربية. فقد كانت المخيمات تاريخيا القلب النابض للثورة الفلسطينية، وقد قدم أبناؤها (وبناتها) العديد من التضحيات. وليس من المبالغة القول إن صحة السياسة الفلسطينية هي بصحة المخيم، وصحة أي بوصلة سياسية فلسطينية هي بمدى قربها من المخيم.
مع هذه التحديات التي تقف في وجه قضية اللاجئين وحق العودة، يجب التأكيد على أنه سوف يكون من الصعب التصدي لهذه التحديات بدون إعادة بناء منظمة التحرير. فمنظمة التحرير، اذا ما تم إعادة بنائها على أسس التمثيل العادل لكافة مكونات الشعب الفلسطيني، هي الجسم الوحيد الذي يمكن أن يفّعل العمل على أسس التمثيل العادل لكافة مكونات الشعب الفلسطيني، هي الجسم الوحيد الذي يمكن أن يفّعل العمل السياسي وأن يغيّر المناخ السياسي السائد، وهي الجسم الوحيد الذي يمكن من خلاله صياغة رؤيا وطنية جديدة تعيد الروح إلى العمل السياسي الفلسطيني.
مازن المصري

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف