مهد الإعلام الموالي للرئيس عباس أمام خطابه في الأمم المتحدة بسلسلة من المواقف والتصريحات، حاولت كلها أن تبرر خلو الخطاب من أي جديد، بل إن بعضهم أكد أنه سيقتصر على تناول 3 قضايا، هي قضية وعد بلفور، والانتداب البريطاني والنكبة، محملاً بريطانيا مسؤولية ما آل إليه الوضع الفلسطيني. وإذا ما صح ذلك فإن هذا يعني أن الخطاب يتهرب مما يفترض به أن يؤديه المجتمع الدولي.
اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، في اجتماعها في 12/8/2017، تناولت عناوين الحالة الفلسطينية، وأكدت على ضرورة اتخاذ سلسلة خطوات إلى الأمام، لإخراج الحالة من المراوحة، والتقدم بها بعيداً عن القيود المفروضة على جماعة أوسلو. في مقدمة هذه الخطوات طلب العضوية العاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة ولو أدى ذلك إلى الصدام مع الفيتو الأميركي، ومطالبة المنظمة الدولية بعقد مؤتمر دولي لحل المسألة الفلسطينية تحت رعاية مجلس الأمن ودول أخرى، والمطالبة بحماية دولية للشعب والأرض في مواجهة الاحتلال والاستيطان، وتفعيل الشكاوي ضد الجرائم الاسرائيلية أمام محكمة الجنايات الدولية.
مثل هذه القضايا، إضافة إلى طرح قضية القدس وعمليات التهويد والضم المخالفة لقرارات المرجعية الدولية، كان يفترض أن تشكل القسم الرئيس للخطاب الفلسطيني في الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما كان يفترض أن يتناول الخطاب قضايا الاستيطان والأسرى اللاجئين وحق العودة ودعم وكالة الغوث وتطوير خدماتها.
غير أن مؤشراً رئيسياً أوحى بأن الموقف الفلسطيني في الأمم المتحدة سيكون باهتاً هذه المرة، وأنه سيخلو من "القنابل" التي يعدنا فيها الإعلام الموالي للرئيس عباس في كل دورات الأمم المتحدة. هذا المؤشر، حين طلب ممثل فلسطين في الوكالة الدولية للسياحة سحب طلب قبول عضوية دولة فلسطين، بناء على نصيحة "الأصدقاء". وأوضحت مصادر مطلعة أن "الأصدقاء" نصحوا بعدم التشويش على التحرك الأميركي، وعدم إغضاب الإدارة الأميركية بتحركات تتجاوز سقف العملية التفاوضية (المرتقبة والتي قد تأتي وقد لا تأتي) إن في المنظمات الدولية، كالوكالة الدولية للسياحة، أو في خطاب الرئيس عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
* * *
هذا السلوك الفلسطيني «الهادئ» والحريص على عدم إثارة المشاكل في وجه الادارتين الأميركية والاسرائيلية، هو من نتائج لقاء رام الله مع الوفد الأميركي برئاسة جاريد كوشنر، الذي أكد على ذات المواقف السابقة والداعية إلى تشديد التعاون مع سلطات الاحتلال ضد "الإرهاب"، والإسراع بوقف مرتبات الأسرى وعائلات الشهداء، وضبط الإعلام وإعادة النظر بالبرامج التربوية لوقف "التحريض" ضد إسرائيل، تمهيداً لخلق أوضاع نفسية للقبول بالتسوية، كما أكد على ضرورة عدم «التشويش» على التحرك الأميركي، بما في ذلك عدم إثارة قضية الاستيطان، باعتبارها واحدة من القضايا التفاوضية. أما عن سقف الحل، فإن الوفد الأميركي تجاهل «حل الدولتين» مرة أخرى، كما تجاهل «حل الدولة الواحدة»، لكنه في الوقت نفسه لفت نظر الجانب الفلسطيني بسؤاله عن رأيه في «الحل الكونفدرالي» مع الأردن. لكنه لم يتلق رداً.
و«الحل الكونفدرالي» هو العودة إلى مشروع «المملكة العربية المتحدة» الذي أعلن عنه الملك الأردني الراحل حسين عام 1972، بالتشاور مع رئيس الحكومة الاسرائيلية آنذاك شمعون بيريس، والذي يقضي بإعادة الضفة الفلسطينية، و«أية أراضي أخرى» ينسحب منها الاحتلال، إلى المملكة الأردنية، ليعاد صياغة نظامها، كإتحاد كونفدرالي بين الضفتين، تحت اسم المملكة العربية المتحدة. وهو المشروع الذي قدم النظام الأردني بديلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية [التي لم تكن قد حظيت بعد بالاعتراف العربي والدولي بها باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني] وهو المشروع الذي قطعت عليه الطريق الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، بإطلاق البرنامج الوطني الفلسطيني (البرنامج المرحلي) بديلاً لكل الحلول والسيناريوهات الهادفة إلى شطب الشخصية والحقوق الوطنية الفلسطينية، البرنامج الذي حمل شعار «العودة وتقرير المصير والدولة المستقلة»، والذي تحت رايته شقت م.ت.ف، طريقها نحو الأمم المتحدة، ونحو الاعتراف ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وهو البرنامج الذي تحول إلى البرنامج الوطني لعموم فئات الشعب الفلسطيني وقواه السياسية.
العودة إلى «الحل الكونفدرالي» هو إنقلاب جديد على البرنامج الوطني، بعد الانقلاب السابق، الذي مثله إتفاق أوسلو في 13/9/1993، والذي يدخل هذه الأيام عامه الخامس والعشرين دون أن يحمل في أفقه ما يؤشر إلى الوصول إلى ما يسمى «الحل الدائم».
وتفسر الدوائر المراقبة صمت الجانب الفلسطيني عن الاقتراح الأميركي بأنه يندرج في إطار أكثر من «نصيحة» عربية طلبت منه عدم التصادم مع الجانب الأميركي، إذا ما تبين أن جعبته خالية من أية إقتراحات، أو إذا ما قدم إقتراحات جديدة. ولعل هذا كله ما يفسر لماذا يخلو خطاب الرئيس عباس من أية مواقف كانت قد قررتها اللجنة التنفيذية، ومن أية «قنابل»، وعِدَ الرأي العام الفلسطيني بها العام الماضي، ومازال ينتظر تفجيرها.
* * *
في مطلع هذا العام، وعد الرئيس عباس الشعب الفلسطيني بأن 2017 سيكون عام قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. ونفترض أن الجمعية العامة للأمم المتحدة هي المكان الأفضل والمناسب لمثل هذا الإعلان، خاصة وأن الجمعية العامة هي التي إحتضنت قرار الإعتراف بدولة فلسطين وبعاصمتها القدس وبحق العودة للاجئين.
حتى في إطار التحضيرات للمجلس الوطني الفلسطيني [ والذي مازالت عناصر إنعقاده موضع خلافات واسعة] لم تبرز مسألة إعلان قيام الدولة الفلسطينية تنفيذاً لوعد الرئيس عباس.
والتنقيب في ثنايا المواقف والبيانات والتصريحات الرسمية الفلسطينية يؤكد خلوها من أية إشارة إلى مثل هذا الوعد وكذلك مداولات اللجنة التنفيذية في م.ت.ف، تخلو هي الأخرى من أية إشارة إلى هذا الوعد، لا على لسان الرئيس عباس، ولا على لسان أعضاء مطبخه السياسي.
بعبارة أوضح هناك تجاهل تام، لهذا الوعد، وتعتيم تام عليه، في ظل حالة فلسطينية رسمية تعيش أزمه سياسية شديدة التعقيد.
• فسلطة الإحتلال تعمل على توسيع صلاحيات الإدارة المدنية، وعلى «توطين» المستوطنين اليهود في الضفة الفلسطينية من خلال سلسلة من القرارات والمراسيم والإجراءات، ما حوّل هذه الإدارة إلى «حكومة» أخرى في الضفة، باتت هي المرجعية الحقيقية لحكومة السلطة الفلسطينية.
• الجانب الأميركي، لم يقدم حتى الآن مشروعه أو تصوره لإطلاق العملية التفاوضية، وليس من مؤشرات أن هذا العام سيكون عام إستئناف المفاوضات. ما يعني المزيد من الجمود والتعفن السياسي، بينما لا تتردد حكومة نتنياهو في فرض إجراءاتها الميدانية التي من شأن تثبيتها كأمر واقع أن يقود إلى عدم قيام دولة فلسطينية في الضفة ولو مبعثرة الأجزاء.
• والحالة العربية لا تترد في الضغط على القيادة الرسمية، تطلب إليها «إلتزام الهدوء» وعدم التشويش على الدور الأميركي، كما تطلب إليها إنتظار دورها، إلى حين الفراغ من القضايا الإقليمية الساخنة، وهي كثيرة [أزمة الخليج ..اليمن ..ليبيا]
• أما الرباعية الدولية فقد تحولت إلى نصب تذكاري يفتقر إلى الحد الأدنى من علامات الجمال الفني، بعد أن شكلت، لفترة غير قصيرة، غطاء لتحركات مشبوهة لممثلها في المنطقة، ورئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير.
وبالتالي فإن الحالة الفلسطينية تقف أمام خيارات في ظل الوضع الحالي:
• خيار التسليم بالأمر الواقع في إنتظار «نضوج» الموقف الأميركي، وملاقاته لحالة عربية فرغت همومها وباتت على إستعداد للتحول نحو المسألة الفلسطينية. وهو خيار يعني، من ضمن ما يعني، العودة إلى سياسة إنتظارية من جانب واحد، توفر للجانب الإسرائيلي الأجواء المناسبة لمواصلة خطواته الأحادية، إن في إفراغ إتفاق أوسلو من العديد من عناصره، أو في فرض الوقائع الميدانية لفرض الحل من جانب واحد.
• خيار العودة إلى البرنامج الوطني، الذي أعادت له الإعتبار إنتفاضة القدس والأقصى، حين أكدت أن المجابهة الأوسع مع الإحتلال ومع الإستيطان، تحت سقف الوحدة الوطنية وتحت سقف البرنامج الوطني، هي البديل لكل السياسات والسيناريوهات، من أوسلو، إلى الرهان على إدارة ترامب.
ولا نعتقد أن الحالة الفلسطينية تملك ترف الإنتظار طويلاً لتقرير خيارها القادم.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف