ما هي المتعة التي حدثت مرة اخرى في يوم الجمعة، صحافيون، مفكرون وآخرون تنافسوا فيما بينهم على من يكون الاكثر براعة وتسلية. الاول قال إن الفلسطينيين يشعلون اطارات السنة الجديدة، الثاني كتب أن رؤساء حماس غابوا عن المظاهرة لأنهم مصابون بالربو، وآخر اقترح استدعاء آريه درعي لأن الفلسطينيين يستخدمون البصل، وآخر سأل عن طائرة "السوبرتانكر"، وآخر حمل صورة الصليب المعقوف التي رفعت في المظاهرة التي كتب عليها "هؤلاء الناس المدهشون الذين يمكن أن تصنع معهم السلام"، والمحلل الذي اعتبر معتدلا نسبيا قال في التلفاز إن هذا "احتجاج غبي" مثل الذي لا يناسب مستوى ثقافته المعروفة. والجميع امتدحوا كالعادة الجيش الاسرائيلي على انجازه. لا أحد استطاع اجتياز الجدار. الدولة تم انقاذها من الدمار. كل الاحترام للجيش الاسرائيلي.
في الوقت الذي دارت فيه كل هذه البراعة في الشبكات الاجتماعية، كان 20 ألف شخص من سكان غزة اليائسين يتجولون في الفضاء الرملي قرب الجدار الذي يحبسهم، ويحاولون الصراخ طلبا للمساعدة، وهم يرتدون ملابس بالية، ومعظمهم من الشباب الذين 65 في المئة منهم عاطلون عن العمل، يستنشقون الدخان الاسود ويعرفون أن ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم أسود منه. كان هناك من حملوا في أيديهم التطوير الاخير من صناعة السلاح في غزة: المرايا، مرايا الحمامات ومرايا غرف النوم، التي هدفت الى ابهار عيون الجنود الذين يطلقون نار القناصة عليهم. هذه المشاهد لم تتم رؤيتها هنا منذ فترة: 1350 شخص اصيبوا، 293 منهم بالنار الحية، 20 منهم اصيبوا اصابة بالغة وحتى بالغة جدا، 9 جثث تم احصاءها حتى الصباح.
الاغلبية منهم كانت حذرة في اجتياز خط النار، بالضبط مثلما كان الامر ذات يوم في "دي.دي.آر". الالمان الشرقيون اطلقوا النار على كل من حاول الخروج من بلده، لقد كان ذلك امرا مثيرا، الاسرائيليون يطلقون النار على كل من يحاول الاقتراب من حدودهم، وهذا أمر مسلٍ. قريبا ربما سيكون هذا جدار كهربائي سيغنينا عن عمل القناصة. من بين القتلى شاب إبن 16 سنة، حسين ماضي، ومصور صحافي، كان يرتدي سترة كتب عليها كلمة صحافة باللغة الانجليزية، لم تستطع الدفاع عنه في وجه القناص في الجيش الاخلاقي الذي صوب نحو صدره وأطلق النار. ربما أن القناص لم يعرف قراءة الانجليزية. ولكن ياسر مرتجى وصل الى جيل 30 سنة ولم يخرج من حدود قطاع غزة. منذ فترة قصيرة قام بنشر صورة من الجو لقطاع غزة. مرتجى كتب أن حلمه هو تصوير مثل هذه الصورة. الآن ربما يستطيع تحقيق حلمه. في جنازته أمس قاموا بتغطية جثمانه بسترته الصحافية الزرقاء. هو لم يكن الصحافي الوحيد الذي أطلق قناصة الجيش النار عليه أول أمس. فهناك ستة صحافيين اصيبوا، ودمهم لم يكن أكثر حمرة، لكن اطلاق النار عليهم اثبت أن قناصة الجيش الاسرائيلي يطلقون النار دون تمييز ولا يستثنون أي ضحية.
كل ذلك اظهر ردودا مسلية في الشبكات الاجتماعية وتهنئة للجيش الاسرائيلي في وسائل الاعلام. يصعب فهم كيف يمكن النظر الى عشرات الاشخاص في القفص لكنك لا تراهم. كيف يمكن النظر الى هؤلاء المتظاهرين وعدم رؤية كارثتهم التي هي من صنع اسرائيل في المقام الاول. كيف يمكن ازالة الاتهام عنا وأن نلقي بالمسؤولية على حماس، ولا تثيرنا للحظة رؤية دماء الابرياء التي سفكت على أيدي جنود الجيش الاسرائيلي. كيف يمكن لرئيس الشاباك السابق أن يثير هنا احتجاجا جماهيريا بزخم كهذا ضد خطاب اجوف لرئيس الحكومة في احتفال ليس أجوف أقل منه. في الوقت الذي امام كل هذه المذبحة بصعوبة يكون تثاؤب فقط.
في هذه المرة لا توجد صواريخ قسام، ولا توجد سكاكين وحتى لا توجد مقصات. ليس هناك ارهاب سوى "ارهاب الاطارات" ومسيرة الارهاب. هذه المفاهيم الفظيعة من انتاج "اسرائيل اليوم". في هذه المرة الاحتجاج غير عنيف، ورغم ذلك لا تراه اسرائيل. فهي لا ترى بياض عيون من قاموا به، لا تراهم كبشر، ولا ترى يأسهم، ولا ترى مرارة مصيرهم. في الكارثة الطبيعية القادمة ذات يوم سترسل اسرائيل بعثة مساعدة والجميع سيذوبون من رحمتها اليهودية والانسانية. ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر الجلطة التي اغلقت شريان القلب، الجلطة التي تمنع تزويد الانسانية والرحمة للقلب الذي اغلق بشكل نهائي.

8/4/2018

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف