لعل الحدث الأبرز الذي رافق إنعقاد الدورة الحالية للمجلس الوطني الفلسطيني (30/4/2018) هي مقاطعة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين للدورة، من جهة، ومشاركة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين من جهة أخرى، وما أثاره هذان الموقفان من ردود فعل، إما مرحبة، أو شاجبة، علماً أن الترحيب أو الشجب طال الجهتين معاً، ما يؤكد حجم التباينات والخلافات في الصف وفي الشارع الوطني الفلسطيني. ولعل عودة إلى منصات التواصل الإجماعي تعطينا صورة واضحة عن طبيعة هذه التباينات وهذه الخلافات. وهو أمر يعكس حالة فلسطينية تعيش شديدة التعقيد والإلتباس، والتشتت، تحتاج من القوى الوطنية، والفعاليات المجتمعية، كلها دون إستثناء، بذل الجهود، لتوحيد المواقف والرؤى، خلف برنامج وطني كفاحي، كما توحدت على سبيل المثال خلف الإنتفاضة الوطنية الكبرى (الأولى) وخلف الثانية، وكما هي موحدة حالياً (إلا قلة قليلة) حول مسيرات العودة التي إنطلقت في 30/3/2018، وستكون ذروتها منتصف شهر أيار مع ذكرى النكبة الوطنية الكبرى.
من هنا ننطلق لنقول إن دورة المجلس الوطني هذه لن تكون نهاية المطاف، بل هي محطة من المحطات السياسية التي تشهدها القضية الوطنية الفلسطينية، لها ما قبلها، ولها، بالضرورة، ما بعدها.
فأياً كانت قرارات المجلس الوطني، فإن طبيعة الأوضاع والعلاقات الفلسطينية الداخلية تنبئ بأن المعارك الوطنية، عند إنعقاد إجتماعات المؤسسات الوطنية، تشتد عشية الإجتماعات، وتتواصل بعد إختتامها.
عشية الإجتماعات للتوافق، قبل الإجتماع، على آليات التحضير وأسس المدخلات والمخرجات الواجب التوصل إليها، إن على الصعيد السياسي، على قاعدة التوافق الوطني، أو على صعيد التنظيمي والمؤسساتي، في إطار التجديد والتطوير والإستجابة للمستجدات والتداعيات والتطورات.
وقد اعتدنا، في الحالة الفلسطينية أن تدور عشية الإجتماعات معارك سياسية يحاول كل طرف أن يمرر مواقفه كاملة، أو ما يشبه مواقفه. كما اعتدنا، في الحالة الفلسطينية أن نلجأ في لحظة الحسم، إلى ما بات يسمى «تدوير الزوايا»، أي البحث عن توافقات لغوية، هي تعكس خلافات في الرأي أكثر مما تعكسه من توافقات، وبحيث يبقي كل طرف مصراً على تفسير هذه «التوافقات اللغوية» بما يخدم سياسته ورؤيته. كما أنه ليست هناك ضمانات أن تجري الأمور، خلال دورة الإجتماعات، وفقاً لكل ما تمً الإتفاق، أو التوافق عليه، إذ اعتدنا أن يلجأ البعض، على الدوام، إلى محاولة فرض رأيه، أو وجهة نظره، مستنداً إلى ما يعتقده «النصاب القانوني»، أو «النصاب العددي»، متجاهلاً أهمية «النصاب السياسي»، أي وحدة الموقف الوطني الفلسطيني، على حساب «النصاب العددي»، أي إنفراد طرف خلافاً لباقي الأطراف.
* * *
أما عندما تنتهي الإجتماعات، ويعود كل طرف إلى مواقعه، تبدأ معركة جديدة لا تقل أهمية عن معركة التحضير عشية الإجتماعات. هي مرحلة تفسير، وتطبيق القرارات والإلتزام بها. إذ سيحاول كل طرف أن يفسر القرارات وفقاً لرؤيته، بل إن من يملكون النفوذ في المؤسسة الوطنية، سيحاولون أن يمارسوا السياسة «الإنتقائية»، أي تطبيق ما يرغبون به، وتعليق وتهميش باقي القرارات.
ولنا في تاريخ المؤسسة أكثر من تجربة منها:
• في المجلس الوطني المنعقد في الجزائر، والذي أعلن وثيقة الإستقلال في 15/11/1988، تم التوافق على تبني قرارات الشرعية الدولية (قرارات الأمم المتحدة) أساساً للتسوية مع الجانب الإسرائيلي. على قاعدة أن هذه القرارات تكفل الحقوق الوطنية المشروعة، كتقرير المصير، والإستقلال، والعودة (منها بشكل خاص القرار 194). قبل أن يجف حبر القرارات، وفي ظل الإبتهاج الوطني بإعلان الإستقلال، خرجت القيادة الرسمية إلى مؤتمر صحفي، تعلن فيه موقفين، تعتقد أنهما كفيلان بفتح باب العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية: إدانة العنف (أي الإعتذار عن تاريخ المقاومة الفلسطينية) والإعتراف بالقرار 242. علماً أن المجلس الوطني، وإن كان قد دعا إلى تسوية سياسية على أساس قرارات الشرعية الدولية، فإنه لم يعلن وقف الكفاح المسلح (لا بالأمس، ولا الآن، ولا غداً فالكفاح المسلح وكل أشكال الكفاح حق مشروع لشعب فلسطين). كما أن المجلس الوطني لم يميز القرار 242 عن سواه من باقي القرارات، وهو الأمر الذي دعا، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، على سبيل المثال، لإصدار بيان تؤكد فيه أن المجلس الوطني وافق على قرارات الشرعية الدولية، كرزمة واحدة، أساساً للتسوية، وليس فقط 242، الذي لا يوفر الأساس الضروري لحل المسألة الفلسطينية بما يستجيب للحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وإن كان القرار، في الوقف نفسه، ينص على ضرورة الإنسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة بحرب حزيران (وهذا لا يمكن الإعتراض عليه)، كما يؤكد على عدم جواز الإستيلاء على أراضي الغير بالقوة (وهذا أيضاً يشكل نقطة إيجابية لا يمكن رفضها).
• التجربة الثانية مازالت مائلة للعيان. وتتعلق بتجربة المجلس المركزي الذي إتخذ في 5/3/2015 سلسلة قرارات تتعلق كلها بفك الإرتباط بإتفاق أوسلو، وطي صفحة المفاوضات الثنائية، والذهاب بدلاً من ذلك إلى مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة. القيادة المتنفذة في م.ت.ف. وفي السلطة الفلسطينية، وبدلاً من العمل على تطبيق القرارات المتفق عليها في المجلس المركزي، جعلت من هذه القرارات مادة للمقايضة، مع الولايات المتحدة. إذ تعهدت أمام إدارة أوباما، بصون التنسيق الأمني بإعتباره مقدساً (خلافاً لقرار المجلس المركزي بوقف التنسيق الأمني) وبعدم الإنتساب إلى 22 وكالة دولية، (خلافاً لقرار المجلس المركزي تنسيب دولة فلسطين إلى هذه الوكالات). وبعدم اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية (خلافاً لقرار المجلس المركزي بإحالة جرائم الإحتلال إلى المحكمة الدولية) وأخيراً، وليس آخراً، بعدم الذهاب إلى الأمم المتحدة للمطالبة بمؤتمر دولي بدلاً للمفاوضات الثنائية تحت الرعاية الأميركية المنفردة (أيضاً خلافاً لقرارات المجلس المركزي). كل هذا، مقابل أن لا يصادق الرئيس الأميركي على نقل سفارة بلاده إلى القدس، وأن يعترف بها عاصمة لإسرائيل. ما جرى، أن قرارات المجلس المركزي دخلت الثلاجة، وأن المجلس المركزي كله دخل الثلاجة، وجرى تعطيله، وبقيت العملية التفاوضية في حالة موت سريري، بينما تواصل الإستيطان، ونهب الأرض، وتدمير المنازل، وتخريب الريف، وتهويد القدس، والعدوان على قطاع غزة، والإعتقالات الجماعية، وحرب إصطياد الشبان في شوارع المدن الفلسطينية. أما النتيجة النهائية، فكانت أن أخلت الولايات المتحدة بوعودها، وأن التنازلات الفلسطينية من الحقوق الوطنية ذهبت هباء. فدعي إلى مجلس مركزي جديد بعد مرور 4 سنوات على السابق، في ظل صفقة القرن، شطبت القدس، والإستيطان، والحدود، واللاجئين عن طاولة المفاوضات، كما رفعت عن المناطق الفلسطينية والجولان السوري صفة «المحتل»، تمهيداً لضمها إلى دولة إسرائيل.
التجربة المرة مع قرارات المجلس المركزي في 5/3/2015 تكررت مع المجلس المركزي في 15/1/2018. إذ بقيت القرارات حبراً على ورق، وجرى إحالتها إلى الثلاجة. ليس هذا فحسب، بل ذهب رئيس السلطة الفلسطينية مرة أخرى إلى مجلس الأمن الدولي في 20/2/2018، ليجدد تمسكه بإتفاق أوسلو، وليجدد تعهداته التي كان قد قدمها إلى إدارة أوباما، والتي تتطلب تعطيل قرارات المجلس المركزي حتى إشعار آخر.
* * *
هذا كله يؤكد أن معركة الوصول إلى قرارات توافقية في المؤسسة الوطنية ليست هي نهاية المطاف. وليست هي نهاية الصراع داخل الصف الفلسطيني. وبالتالي أياً كانت قرارات المجلس الوطني، فإنها لن تكون لا هي، ولا الدورة الحالية نهاية المطاف. فبعد الدورة ستنشب معركة تطبيق القرارات(إذا كانت قرارات توافقية) أو معركة إسقاط القرارات (إذا كانت قرارات إنفرادية إنشقاقية عن الإجماع الوطني)، إلى أن تراكم القوى الوطنية والديمقراطية نضالاتها لصالح البرنامج الوطني، برنامج الإنتفاضة والمقاومة، وتدويل القصية في الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية. وهذا لا يتحقق بالضربة القاضية بل بنضالات دؤوبة تراكمية، يشكل الشارع فيها مكان الصراع الرئيسي.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف