لم يكن الوصول إلى بيت "أبو خالد" سهلا، ولكن الأصعب كان استباق المشهد الذي يمثله البيت وتوقع وجود مثله في هذه المنطقة.
بالرغم من الدور التاريخي لقرية اللقية في منطقة النقب، جنوبي البلاد، والتي تميز موقعها الحالي لوجوده على خط "طريق العطور" التجاري الذي كان يصلُ القاهرة ببغداد من هذا المقطع، وشمل ملتقى التجار الذي تعلق ببئر الشيخ إبراهيم الصانع (تسمية جديدة نسبيًا)، والذي كان استراحة التجار خلال سفرهم، تعتبر جبال اللقية، وهي الحدود الغربية للقرى، جزءا من سلسلة جبال الخليل وتقع القرية في منطقة قضاء الخليل التاريخية.
رغم هذا الحضور على مدار عقود، مثلها كغيرها من القرى والمدن سيطرت الحداثة على قرية اللقية وحلت محل البداوة مما جعل الخيام تختفي تقريبا والبيوت تنتشر وترتفع مع مرور الوقت.
لم تكن الحداثة العدو الوحيد للتراث، أيضا سيطر الاحتلال على الآثار الفلسطينية، على مدار السنوات، وجرى سرقة الكثير من حجارة بئر الشيخ إبراهيم الصانع التاريخية مثلما حدث لغيرها من حجارة القرى المهجرة والتاريخية، وتحولت إلى عناصر تجميل لبيوت اليهود.
خلال سنوات الحكم العسكري وفي العام 1953 جرى تهجير عشيرة الصانع بالقوة، بالإضافة إلى عدة عائلات محيطة بها من أرضهم في جبال اللقية إلى حدود الأردن، بهدف التهجير الكامل للعشيرة. استمر بقاء العشيرة في المنطقة عدة أشهر لم تقبل فيها الأردن المهجرين ولم يقبل الحاكم العسكري إعادة الفلسطينيين إلى أرضهم، حسب الرواية الشفوية للأهالي.
توجه تهجير عشيرة الصانع في النهاية إلى منطقة تل عراد، بقيت العشيرة في جبال تل عراد ومنطقة البحر الميت لما يقارب 20 عاما حتى حقق الأهل العودة إلى أرضهم في اللقية.
بعد تناول الشاي المميز الذي تصنعه "أم خالد" المرأة البدوية التي تعمل في النسيج البدوي التقليدي، شريكة أبو خالد في كل أعماله، يحدث يوسف الصانع "أبو خالد" ضيوفه الجدد عن التهجير من أرض اللقية الغالية عليه، على أنه جزء أساسي من هوية المكان والبيت، أبو خالد الذي عاد إلى بيت عائلته بعد سنوات من التهجير وجد أن جدران البيت الطينية قد انهارت والعديد من حجارته التاريخية قد سلبت، لكن لم يوقف هذا الحزن الصانع والذي يعمل بناء في الأساس، عن الحلم والعمل.
أعاد صاحب البيت ترميمه من نقطة الصفر، أحب الحجارة وعشقها حتى صنع منها لوحته الحالية، البيت الذي لا يتوقف عن العمل فيه لعشرات السنوات. يقول أبو خالد إنه لا يراه مكتملا بعد، وإن "الحجارة هي التي تقرر مكانها فيه لا من يضعها".
وأكد السبعيني يوسف الصانع، أبو خالد، لـ عرب 48" أنه "تم تهجير عشيرة الصانع من أرضها مرغمة، لم يحبنا الحاكم العسكري وأراد إخراجنا من اللقية بكل ثمن، وبالفعل انتقلنا إلى تل عراد، المنطقة الجبلية الصحراوية صعبة التضاريس، لكن رغم التهجير لم ينس آباؤنا بيوتهم وأرضهم أبدا وبقوا على مطلبهم وحلمهم بالعودة حتى عادوا".
عند رؤية بيت أبو خالد ترى مكونا لا علاقة له بأي من مركبات الصورة الأخرى المحيطة به، ولكنه الأكثر مركزية وجمالا فيها.
قال أبو خالد: "عدت مع العشيرة إلى اللقية وكانت اللحظة الأولى التي رأيت فيها البيت هي الأصعب. عشرات السنوات بلا صيانة أو عناية سمحت للجدران بالاستسلام والانهيار، واستغل اليهود هذا الأمر وأخذوا الكثير من حجارته التي ما زالوا يبحثون عن مثلها حتى اليوم لتزيين بيوتهم بها".
يوسف الصانع "ابو خالد"
وأضاف أنه "لم يخطر في بالي السؤال مرتين، كانت ردة فعلي الأولى عند رؤية بيت العائلة بهذا الشكل قبل أكثر من 40 عاما هي البدء بترميمه وفعلاً بدأت العمل فيه منذ اللحظة الأولى التي رأيت البيت فيها ولم أتوقف حتى اليوم".
*ما الذي يميز حجارة بيت أبو خالد؟
الصانع: أؤمن أن لكل حجر مكانا. كنت أتوجه بسيارتي لكل مكان في كل مرة أسمع عن وجود حجارة فلسطينية قديمة، وأقطع المسافة بالساعات، المهم ألا يسبقني أحد إليها. وفي معظم الحالات جامعو الحجارة هم يهود، يأخذون حجارة القرى المهجرة الجيدة والجميلة لتزيين حدائقهم، ومع الوقت أصبح أصدقائي ومعارفي إن رأو حجرا جيدا في مكان ما يحضرونه لي معهم. الحجارة أحضرتها من منطقة اللد الرملة، والأرضية أحضرتها من منطقة سعير بجانب الخليل، وتلك التي هناك هي حجارة الخلصة والتي بجانبها من بيسان، وإن شاء الله سوف أصل لليوم الذي أجمع فيه كامل الوطن في بيتي".
*لماذا الحجر الفلسطيني وليس البناء الحديث؟
الصانع: يحبك الحجر الفلسطيني الطين والطوب ويعتني بك إذا اعتنيت به. حتى اليوم أنا أعتقد أن الطين والحجر الفلسطيني هو الأنسب للبناء والعيش في بلدنا، لن تشعر وأنت داخله بحر الصيف وسيكون من السهل عليك ان تجد الدفء فيه بالشتاء. الحجر والطين لا يكلف الكثير من المال ولا الجهد كما يعتقد الكثيرون، كل ما تراه أمامك بنيته بيدي وحدي دون اللجوء إلى عمال في أي مرحلة، وأعتقد أنه بإمكان الجميع فعل ذلك إذا توفرت الإرادة".
وختم أبو خالد إجابته مبتسما وواثقا بالقول إن "الطين والحجر البني مريحان لنفس الإنسان، تأثيرهما المباشر علي وعلى أبنائي وضيوفي هو زرع الشعور بالطمأنينة والراحة كما الهدوء، بالإضافة إلى أن العمل في بناء البيوت الطينية هو عمل نظيف لا ينتج القمامة والمخلفات كما نفعل عند إنشاء الأبنية الحديثة".
يقع بيت أبو خالد الصانع في بدايات جبال بلدة اللقية، على رأس تل صغيرة يحدها من جهة اليمين سهل مزروع بأشجار الزيتون وفيه خيول وأغنام وإبل، يمثل السهل لأبي خالد البداوة، أما الحداثة فهي جهة اليسار لتلة تتلخص في بيوت تعلو ارتفاع طوابق عديدة بنيت بشكل حديث ومرفه، وهو الواقع الذي يقع بيت أبو خالد في قلبه، حسب تعبيره.
حاول البعض شراء بيت أبو خالد حتى ما يسمى "سلطة توطين البدو" التي وضعت أمر هدم على بناء بهذا الجمال، توجهت "سلطة توطين البدو" إلى الصانع وفي جعبتها صفقة له، عرضت تعويضا ماليا وقسيمة بناء على دونم أرض شرط أن يتنازل عن بيته "غير القانوني" حسب تعريفها، ورفض صاحب البيت عرضها، حسبما قال.
يخطط أبو خالد، اليوم، فتح البيت للسياح وتأجير غرفه لزوار النقب العرب قبل غيرهم، على حد تعبيره، ليقدم نموذجا بيتيا حميما عن النقب وأهله.
خلال السنتين الماضيتين، بنى الصانع بيديه بيتا جديدا في الجهة العليا للتلة التي يقع عليها منزله، ذات البيت بصورة مصغرة، نفس جمالية البناء، وعند سؤاله عنه قال: "لي ابن متزوج ويعيش في بلدة في شمال البلاد قرر العودة إلى النقب فقررت أن أبني له بيتا".
كأنما يمثل بيت الابن استمرارا للتمسك بالأرض والتراث، الطريق التي بدأها والده.
المصدر:عرب ٤٨ / رأفت أبو عايش

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف