لا يرى نتنياهو تناقضاً بين قتل الفلسطينيين وبين «البكاء» على أطلال حياتهم. فالقتل لزوم استمرار الاحتلال، والتباكي على مآسي غزة يشكل سكة رئيسية لمرور«صفقة القرن» من بوابة القطاع. والنتيجة : استمرار الاحتلال .. أيضاً.
وفي السياق، يريد نتنياهو أن يقول للغزيين إنه في الوقت الذي تضيِّق فيه السلطة الفلسطينية على حياتهم، يهب مع شركائه الأميركيين وغيرهم لنجدتهم عبر رزمة من الإجراءات الإسعافية والمستدامة.
والقيادة الرسمية الفلسطينية، التي اعترفت بها الإدارات الأميركية السابقة شريكاً ضرورياً في بحث مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القطاع ،أقصتها إدارة ترامب عن المشهد، وفق تقدير يقول بأن المسافة بين رام الله وغزة لم تكن في يوم من الأيام أبعد مما هي عليه اليوم.
تقصدت حكومة نتنياهو وشركاؤها الإسهاب بتعداد المجالات الاقتصادية والخدمية التي يمكن لها ولشركائها المساهمة بإنهاضها في قطاع غزة ، وركزت على تنشيط المعابر وتسهيل نقل البضائع وتنقل الأفراد، من موقع إدراكها ما يعنيه ذلك لأهالي القطاع بعد سنوات طويلة من المعاناة بفعل تداعيات الحصار متعدد الجهات.
ويسعى الشركاء لاستثمار شعور الغزيين بانسداد الأفق أمام إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة والتباعد المتزايد بين قطبي النظام السياسي الفلسطيني، كي يضعوا أهالي القطاع أمام عرض مغر. ويرى هؤلاء الشركاء أنه كلما ازداد بريق الإغراء، كلما فتح ذلك الطريق أمامهم كي يقدموا شروطهم السياسية والأمنية والاقتصادية ثمناً للتنفيذ.
وفي حال وصلت الأمور إلى حيز التنفيذ ربطاً بمسار صفقة القرن كما تشقه واشنطن وتل أبيب ، فإن اسرائيل وأمام أية أكلاف مستحقة مستعدة للدفع نقداً من مال السلطة الفلسطينية المجبى من قبل تل ابيب كرسوم مقاصة جمركية وضرائب ، فيما تتولى دول خليجية الإنفاق على الرصيف البحري والمحطة الشمسية وغير ذلك. والمهم بالنسبة لتل أبيب أن تتم جميع الإجراءات تحت إشرافها الأمني حصريا، أي أن القطاع في سياق هذه المقترحات سيكون تحت الإشراف الأمني الإسرائيلي المباشر. وشددت المداولات في أروقة الحكومة الإسرائيلية على ضرورة أن يتم تنفيذ هذه الاقتراحات في بيئة «خالية من الإرهاب». وهذا يعني أن مقدمة التداول الجدي في العروض الإسرائيلية والأميركية يمر بالضرورة بتنفيذ شرط إعادة «تأهيل» الحالة الفلسطينية في قطاع غزة.
ويقدم خبراء من المؤسستين الأمنية والعسكرية الإسرائيلية سيناريوهات عدة في هذا المجال، لكن حكومة نتنياهو وإدارة ترامب تعولان على تبريد الوضع في القطاع عبر خطوات أخرى. فالحكومة الإسرائيلية ترى في مسيرات العودة إعلان حرب عليها. وعندما تجدد الحديث عن فحص إمكانية التوصل إلى اتفاق هدنة أو وقف إطلاق نار بوساطات عربية وغربية، وُضع إيقاف مسيرات العودة كشرط لإثبات حسن النية . والسبب أن تل أبيب تدرك أن الخطر المباشر والمتعاظم يكمن أولاً في هذه المسيرات لما تعكسه من زخم الشعبي، وما تودي إليه من ردات فعل على المستوى الدولي.
وكان واضحاً من خلال جولة كوشنر وغرينبلات الأخيرة أن واشنطن تعتمد على عدد من الدول العربية وإسرائيل كحامل إقليمي لتنفيذ خطتها، التي تتحدث أوساط سياسية غربية وإسرائيلية بأنها في طور وضع اللمسات الأخيرة. ومن خلال المداولات التي تمت في هذه الجولة، كان لقطاع غزة نصيب كبير من الاهتمام. وللمرة الأولى يوضع القطاع في الواجهة في إطار الحديث عن الحل السياسي، والسبب بحسب مراقبين كثر أن الأوضاع التي وصل إليها القطاع أمام مفترق طرق، أحدها الانفجار بكل ما في ذلك من تداعيات على جميع من حوله.
فيما تحاول تل أبيب وواشنطن فتح مسرب آخر يمنع الانفجار ولا ينقذ القطاع من أزماته بل يوظفها في خدمة مسار الخطة الأميركية عبر توظيف بعض المال الخليجي لتخفيض مستوى هذه الأزمات تحت منسوب الانفجار المتوقع. وبالتالي يتم لإسرائيل السيطرة على القطاع من داخله دون أن تضطر للمواجهة العسكرية وشن المزيد من الحروب.
ومع ذلك، تملك الحالة الفلسطينية إمكانية منع تقدم صفقة القرن على الجبهة الفلسطينية ،وخاصة أن التغول الأميركي ـ الإسرائيلي ضد الحقوق الوطنية الفلسطينية يستند أساساً إلى ما تعانيه هذه الحالة من انقسام وصراع ومعه استمرار السياسية الرسمية الفلسطينية في معاندة قرارات المؤسسات الائتلافية والسير بما يعاكسها.
وبخصوص قطاع غزة دعا المجلسين المركزي والوطني إلى رفع العقوبات التي فرضتها السلطة عليه فوراً. ولم تكتف السلطة بالرفض العملي للقرار، بل عاقبت عبر أجهزتها الأمنية الأصوات التي طالبت بذلك في شوارع رام الله. وهو ما فعلته وفق خلفيات أخرى سلطة حماس في غزة.
ويبدو بشكل جلي أن كسر حالة المراوحة هذه يحتاج إنهاض حركة الشارع الفلسطيني في كل من القطاع والضفة ،والجمع ما بين المطالبة بتنفيذ قرارات المؤسسات والحوارات الوطنية الشاملة وبين الدعوة إلى توفير متطلبات مواجهة الخطر الداهم الذي تمثله الخطة الأميركية التي تخدم التوسعية الاسرائيلية.
ومن نافل القول إن جميع مكونات الحالة الفلسطينية معني بذلك. ومرور الوقت دون التقدم في هذا الاتجاه يترك المجال لصفقة القرن أن تتقدم على الأرض ، مستفيدة من الوضع الرسمي العربي المتردي وضعف الحالة الفلسطينية وترددها وانشغال طرفي الانقسام كل بحساباته الخاصة.
مهام وطنية كبرى ينبغي النهوض بها على طريق مواجهة «صفقة القرن» ،وهي تحتاج إرادة وطنية جامعة تحت راية البرنامج الوطني التحرري. وفي أول هذا الطريق ينبغي النزول عند استحقاقات المصلحة الوطنية العليا عبر مغادرة السياسيات الجهوية الضيقة التي جاءت بالكوارث.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف