دُهشتُ للحظة: مقال أسرة التحرير، يوم الجمعة الماضي، «خطف» العنوان الذي خططته للمقال الحالي بتغيير بسيط، أيها اليساريون لا تهاجروا، قال العنوان. في حين أنني اكتفيت بـ»لا تهاجروا». قفزة سريعة الى نهاية مقال أسرة التحرير هدأتني. زملائي كتبوا بصورة ساخرة، في حين أنني أطلب بجدية من اليساريين ألا يهاجروا. واقول لهم لا تهاجروا الى اسرائيل ولا تستغلوا المزايا الممنوحة لكم والتي تمكنكم من التجند خلال يوم، وبهذا تنضمون الى شعب الاسياد. حتى لو قمتم بالانضمام في اليوم التالي لهجرتكم الى نشاطات يسارية مكثفة، فإنكم لن تستطيعوا أن توازنوا بوساطتها التعاون مع نظام السلب والطرد الذي يكتنف خطوتكم.
يوجد لديّ تعاطف كبير مع الشباب اليهودي الذين يعيشون في الشتات والذين يشاركون في نشاطات سياسية وجماهيرية ضد سياسة الاحتلال التي تتبعها اسرائيل ومظاهر «الابرتهايد». الكثيرون منهم يزورون البلاد (اسرائيل وعدداً من مناطق الضفة الغربية) من اجل أن يروا بأم أعينهم كيف تبدو الكولونيالية الاستيطانية وهي تعمل، وبعد ذلك يعودون الى دولهم ويبلغون عن ذلك، ويحتجون ويواصلون نشاطاتهم. أحترم ايضا العلاقة التي يطورونها مع هويتهم اليهودية: الرغبة في التعرف على التاريخ الفريد لعائلاتهم وجالياتهم؛ تفاخرهم بالقيم العالمية، الانسانية، التي لا يجدون صعوبة في العثور عليها لدى كتاب يهود؛ والتعود على انتقاد القسوة، ايضا بهذه الطريقة يمكن التعلم من التراث اليهودي والتاريخي؛ اهتمامهم يوجهونه للتيارات المخفية والظاهرة لآراء عنصرية تجاه اليهود في الدول التي يعيشون فيها.
على مر السنين التقيت مع عدد من هذه المجموعات في البلاد وفي الخارج. في احدى الدول كانت اللقاءات تقريبا سرية: الشباب، اعضاء في حركة شبيبة صهيونية، خافوا من أن لقاء علنيا سيدفعهم اكثر الى هامش الجالية اليهودية. ليس لديّ الأدوات كي أقول إذا بالغوا أم لا، لكن خوفهم كان يكفي من اجل أن أفهم الى أي درجة هم يعملون تحت ضغط ألا ينحرفوا عن الخط الرسمي، المؤيد للاحتلال. في دولة اخرى كان منظمو اللقاء بالغين، لكنه عقد في بيت خاص. اذا فهمت الامر بشكل صحيح، فان المنظمين قدروا بأن حدثا علنيا كان سيكشفهم وربما ايضا يكشف المشاركين فيه على نقاشات مرهقة وزائدة مع اعضاء مؤسسات الجالية الرسمية.
الشباب اليهود، الذين التقيت معهم في البلاد، عادوا بشكل عام من جولات في اماكن السيطرة العسكرية الاسرائيلية على الفلسطينيين. في اسبوع – اسبوعين تعلموا معرفة الوضع افضل بكثير من الكثير من الاسرائيليين في جيلهم، والذي يعرفونه من خدمتهم العسكرية ومن التقارير الناقصة في الإعلام الإسرائيلي. النشطاء يزورون دائما البلدة القديمة في الخليل – لأن الكلمات لا تكفي لوصف الرعب هناك – ويصابون بالصدمة. كل ما اعتقدوا أنهم يعرفونه عن اليهودية واليهود يتفجر هناك الى شظايا. الخليل تضم داخلها، مثل قشرة الجوز، كل الصفات للمنكلين الساديين التي حصلنا عليها كحكام غرباء، وهذيانات الطرد التي يتم تطويرها في الاقبية، وليس فيها فقط.
دائما في كل لقاءاتي مع هؤلاء الشباب المتحمسين طلبت منهم عدم الهجرة الى اسرائيل. ولسعادتي، بشكل عام طمأنوني وقالوا إنهم لا ينوون ذلك. ولكن دائما يوجد من لا يصمدون أمام الاغراء، ويقتنعون بأنهم يستطيعون التأثير نحو الافضل والاسهام في النضال. لهؤلاء أقول: أنتم مخطئون. من المياه التي تشربونها ومرورا بشاطئ البحر الذي تستجمون عليه، والكهرباء التي تضيء في مدرستكم، والمشاركة في حفلات البلوغ للأخ وابن العم في الخارج وحتى دعم الشقة التي ستحصلون عليها في القدس أو في رعنانا: أنتم تختارون أن تكونوا متفوقين، وهذا اختيار غير أخلاقي بشكل واضح.
في مرات كثيرة قال لي فلسطينيون بغضب واستفزاز: اذا كنت يسارية تعارضين الاحتلال فلماذا لا تغادرين البلاد؟ احيانا ناقشتهم واحيانا لم يكن لدي مبرر، لكن خلافا لليهود اليساريين الذين لا يلزمهم شيء للهجرة الى اسرائيل، نحن ولدنا هنا. ليس لدينا خيار. ليست لدينا لغة وبلاد اخرى، حتى ليس في برلين. بالمناسبة، حتى الهجرة الى الخارج هي استغلال لمزايانا كمن ننتمي لنوع عالمي من النخبة البيضاء: من السهل على الاسرائيليين – اليهود الهجرة الى اوروبا والولايات المتحدة والى دول كولونيالية سابقة، والقبول فيها اكثر من الفلسطينيين الذين قطعت اسرائيل امامهم كل الالفاظ المادية والنفسية داخل وطنهم.
اجتازت اسرائيل الخطوط لاحتمالية الاصلاح من الداخل. اذا هاجرتم اليها فإنكم تساهمون في وهم التطبيع الذي تريد بثه نحو الداخل ونحو الخارج. مكانكم، أيها اليهود اليساريون في جالياتكم في الخارج. هناك تستطيعون التأثير، وهناك عليكم التوضيح بأن اسرائيل هي دولة لن تتنازل عن المشروع الكولونيالي، وأنها تنكل بالفلسطينيين (مواطنون ورعايا) وتعرض حياتهم للخطر. هناك تستطيعون الانذار بأن اسرائيل دولة خطيرة، وأن تجدوا من يصغون. اذا هاجرتم الى اسرائيل فإنكم ستطبعون الطرد والخطر.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف