ترافقت زيارة الريس محمود عباس إلى العاصمة الفرنسية باريس، ولقاؤه عن الرئيس ماكرون مع حديث عن إمكانية إطلاق مبادرة فرنسية، لمؤتمر «دولي» جديد، يشكل فاتحة لاستئناف المفاوضات الثنائية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. ترافقت أيضاً مع تصريح للرئيس عباس يعرض فيه استعداده للعودة إلى مفاوضات «سرية» كانت أم علنية، مع رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو.
مما لاشك فيه أن لباريس مواقف إيجابية من المسألة الفلسطينية، عبر عنها مرة أخرى، بشكل واضح المندوب الفرنسي إلى مجلس الأمن الدولي، في كلمته في الإجتماع الأخير للمجلس، إن من حيث الاعتراف بالقدس الشرقية منطقة محتلة، والتأكيد على كونها عاصمة الدولة الفلسطينية، أو في موقفه من مسألة الاستيطان بشكل عام وقضية الخان الأحمر بشكل خاص، أو بما يتعلق بإدامة عمل وكالة الغوث وتمويلها، أو التأكيد على خط الرابع من حزيران، حدوداً لدولة فلسطين.
أما بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فإن باريس تتخذ موقفاً مؤجلاً، ما يمكنها من لعب دور سياسي إقليمي، في العلاقة مع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
وتترك مسألة الدولة الفلسطينية وصيغتها النهائية لمفاوضات الحل الدائم، عملاً بما جاء في اتفاق أوسلو، الموقع من قبل الطرفين والذين مازالا يلتزمانه، وهو ما أكده الرئيس عباس في «رؤيته» أمام مجلس الأمن الدولي في 20/2/2018.
* * *
لقد سبق لفرنسا، في العام 2016، في عهد الرئيس هولاند، أن تبنت مشروعاً لمؤتمر «دولي»، لاستئناف المفاوضات الثنائية. وكان ظاهراً للمراقبين أن المبادرة الفرنسية محاولة لملء الفراغ الذي أحدثه تعنت نتنياهو، ورفضه الاستجابة للاقتراحات الأميركية، وكان ظاهراً في الوقت نفسه، أن باريس، في دعوتها، لا ترغب، ولا تستطيع أن تتجاوز الدور الأميركي، لذلك رهنت تحركاتها بالموافقة الأميركية، حتى أن أجندة الاجتماعات التحضيرية للمؤتمر، ارتبطت بأجندة وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وفي أكثر من مرة، أعيدت جدولة الاجتماعات التحضيرية للمؤتمر، لتتناسب مع جدول أعمال كيري، بل وأبعد من ذلك، راعت باريس، إلى الحد الأقصى الموقف الإسرائيلي. فبناء على رفض نتنياهو الدعوة الفرنسية، بما في ذلك حضور المؤتمر ولو على أي مستوى كان، استبعدت باريس حضور الجانب الفلسطيني، ظناً منها أنها بذلك ترضي واشنطن وترضي تل أبيب، ما يوضح المدى السياسي الذي يمكن لباريس أن تذهب إليه في «تفردها» برعاية مسألة الصراع الفلسطيني ــــــ الإسرائيلي، وفي محاولتها أن تحل محل «الراعي» الأميركي هذا، في زمن إدارة الرئيس أوباما، التي كانت قد رأت في قيام الدولة الفلسطينية (إلى جانب دولة إسرائيل في إطار «حل الدولتين») مصلحة للأمن القومي الأميركي، لأنه يفتح الباب لسلام عربي إسرائيلي شامل، ويدمج إسرائيل في المنطقة.
أما المبادرة الفرنسية التي يجري الحديث عنها حالياً، تتجاوو مع إطلاق إدارة ترامب مبادرته (صفقة العصر) والعمل على تنفيذها خطوة خطوة، تحت ذريعة استبعاد القضايا المعقدة من جدول أعمال المفاوضات، كالإستيطان، والقدس، واللاجئين، وفي ظل شعار أطلقته الإدارة الأميركية يقول: «إن قيام دولة فلسطينية لم يعد يشكل شرطاً لازماً لإقامة السلام في المنطقة».
وبالتالي، لا بد من الإعتراف أن الظرف السياسي بات أكثر تعقيداً أمام باريس، مقارنة بما كان عليه في ظل إدارتي أوباما وهولاند، وأن الإستراتيجية الأميركية الجديدة خلقت وقائع ميدانية من شأنها أن تشجع حكومة نتنياهو على رفض أية مبادرة «دولية» لا تستجيب لعناصر «صفقة العصر». وبالتالي، إذا كان نتنياهو قد وضع العصي في دواليب مؤتمر باريس في زمن هولاند، ونجح في تعطيل مخرجاته إلى حد كبير، فمن الطبيعي أن يعاند نتنياهو هذه الأيام، وأن يرفض أية مبادرة «دولية»، فرنسية كانت أم روسية، لا تقدم له ما تقدمه «صفقة العصر».
لذا، يمكن القول إن الرهانات على مبادرات «دولية» تتبناها عواصم كبرى، كباريس، كمحاولة لمجابهة «صفقة العصر»، لن يكون إلا رهاناً فاشلاً، خاصة وأن «صفقة العصر» تمضي قدماً إلى الأمام، وقد تم تنفيذ 70 بالمئة منها (باعتراف صائب عريقات شخصياً) ولن توقفها الدعوات والأماني والرهانات الفاشلة.
* * *
إذا ما نظرنا إلى الحديث عن التحرك الفرنسي المرتقب، وفي ظل رهان فلسطيني رسمي بإعتباره مدخلاً لجولة مفاوضات جديدة، فأننا نراه خروجاً عن قرارات المجلس المركزي (15/1/2018) والمجلس الوطني (30/4/2018) وتهرباً من استحقاقاته السياسية، ومحاولة للإلتفاف عليها وكسب الوقت في رهان على ما قد يأتي لاحقاً (!)
فالمجلسان المركزي والوطني قررا بوضوح شديد إنتهاء اتفاق أوسلو. وإنتهاء العمل به، والتحرر من التزاماته وبناء عليه، قررا إعادة تحديد العلاقة مع إسرائيل، بسحب الإعتراف بها، ووقف التنسيق الأمني وفك الإرتباط بالإقتصاد الإسرائيلي وهي كلها قرارات مازالت معلقة، وتتهرب القيادة الرسمية من الإلتزام بها، بل وتجعل منها فزاعة، تحاول من خلال التلويح بها، أن تجعل منها عنصراً ضاغطاً على المجتمع الدولي، كي يقدم لها بعضاً من ماء الوجه، ما يعفيها من استحقاقات تطبيق هذه القرارات.
فضلاً عن ذلك قرر المجلسان طي صفحة المفاوضات الثناية، وأكد المجلس الوطني على الدعوة لمؤتمر دولي، للمسألة الفلسطينية، تنظمه الأمم المتحدة وترعاه الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وبموجب قرارات الشرعية الدولية التي اعترفت للشعب الفلسطيني بحقوقه الوطنية غير القابلة للتصرف.
وبالتالي فإن أية دعوة لمؤتمر «دولي»، تأتي من خارج الأمم المتحدة، على غرار مؤتمري أنا بوليس، وباريس (في زمن هولاند) أو على غرار ما يدور الحديث عنه في العاصمة الفرنسية الآن، ما هي إلا عملية هروب من قرارات المؤسسة التشريعية الفلسطينية، ولا نعتقد أن بالإمكان التلاعب بتعريف «مؤتمر دولي», فالمؤتمر «الدولي» الذي قد تدعو له «الرباعية الدولية»، شيء، والذي تدعو له الأمم المتحدة ومجلس أمنها وجمعيتها العمومية شيء آخر.
والمؤتمر «الدولي» الذي يعتبر خطة الطريق برنامجه، وما تبقى من اتفاق أوسلو، كقضايا الحل الدائم، جدول أعماله، شيء، والمؤتمر الدولي الذي يعتبر مرجعتيه قرارات الشرعية الدولية، وتحكمه آليه ملزمة، وسقف زمني ملزم، وتتحدد أهدافه مسبقاً، بإعتباره الطريق إلى تطبيق قرارات الشرعية في تقرير الشعب الفلسطيني لمصيره، وقيام دولته المستقلة، وحق اللاجئين في العودة .. شيء آخر.
أما التصعيد الكلامي في مجابهة «صفقة العصر» وسياسة إدارة ترامب، دون خطوات عملية ميدانية، والتهديد دون الإنتقال إلى الفعل، فليس إلا ذراً للرماد في العيون. وهي، الأخرى لعبة باتت مكشوفة ولم تعد تنطلي على أحد.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف