فجأةً وداخل بحر القرف، والسخرية، والغضب الذي يثيره دونالد ترامب، فقد اتخذ قراراً يبعث الأمل، لقد قرر الانسحاب من سوريا. إزاء جوقة النحيب الاسرائيلية، والتي تضم بالطبع أيضاً، قدراً لابأس به من السرور لبنيامين نتنياهو، يجب أن نقول لترامب: شكراً، شكراً على القرار الذي سوف يفيد أخيراً اسرائيل، والولايات المتحدة والمنطقة.
ليس فقط أن الرئيس وفى بوعده، ليس فقط على أنه يواصل السياسة الحكيمة لسابقه– أيضاً تجاه اسرائيل فان قراره، والذي عرضت هنا بالطبع وكأنه يحمل كارثة، ويضعضع الوعد: سوف يؤدي إلى جعل اسرائيل تبدأ بالوقوف على أرجلها ويفتح شرخاً في ثمل القوة لديها وفي قوتها الزائدة والتي هي العوامل الأكثر تدميرية لها ولمحيطها. القرار يتعهد بارجاع اسرائيل إلى ارض الواقع على الاقل في سوريا: سوريا أولاً.
إن استناد اسرائيل على قوتها العسكرية العظيمة واعتقادها أن القوة ستجيب على كل شيء– بالإضافة إلى الدعم غير المحدود للولايات المتحدة– لم يفيدها. الآن يجب أن نأمل أن الانسحاب من سوريا يبشر بتغيير الاتجاه من جانب الأمريكان، ليس فقط يدلل على قرار سريع لمرة واحدة. إذا حدث ذلك عندها سيتحول ترامب إلى صديق حقيقي لاسرائيل، يهتم بمستقبلها أكثر بكثير من كل مسلِّحيها ومموِّليها، أصدقاء أكاذيبها. مثل الأب الذي يقرر أن يتخلى عن معانقة الدب الذي يمنحها لابنه المدلل من اجل أن يواجه بنفسه الواقع– ربما أن ترامب سيقوم بتحرير اسرائيل من الرعاية المضرة التي أحاطتها بها أمريكا، مصيدة العسل التي أفسدتها حتى النخاع.
التدخلات العسكرية للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية انتهت بشكل عام بسفك دماء جماعي كبير، وحشي وزائد. السلام والحرية، وهي الأهداف المعلنة لحروب أمريكا– هذه التدخلات، لم تمنحها أبداً. من كوريا وحتى ىسوريا مروراً بفييتنام وأفغانستان والعراق– خلفت خلفها ملايين البشر الذين قتلوا عبثاً. لهذا لا يوجد ما نبكي عليه على خروج أمريكا من سوريا. باستثناء التخلي عن الأكراد المثير للغضب ولكن المتوقع، فإن بقاء جيش الولايات المتحدة لم يؤدِ لا إلى سلام ولا إلى حرية لأحد.
اسرائيل اعتقدت أن تكون في ظل الحماية الامريكية ايضاً في سوريا، ترامب وضع حداّ لهذا الأمل. في البداية كانت روسيا هي التي أنهت طيران اسرائيل في سماء سوريا ولبنان– والآن الولايات المتحدة. اسرائيل بقيت لتواجه مصيرها، على الأقل في سوريا. هذا يخيف الأمنيين، المقتنعون بأن اسرائيل تستطيع فقط أن تعيش بواسطة القوة ولكن هذا يجب أن يشجع كلمن يفهمون بان الاعتماد الحصري على القوة العسكرية لم ينجح في يوم ما طوال الوقت. دول عظمى أقوى من اسرائيل انهارت. اسرائيل ستضطر لان تقصف بقدر أقل وهذا جيد. سوف تضطر للاعتراف بحدود القوة، وهذا أيضاً أفضل من سابقه.
إذا تسرّب هذا الفهم، عندها سيحدث تغيير ثوري في رؤية اسرائيل. الاحتمال للوصول إلى سلام وقبولها في المنطقة مرهون بإضعاف قوتها. خلافاً للتفكير المعتاد، فإن زيادة قوة اسرائيل هو لعنتها الكبرى. بفضلها وبفضل الدعم الأعمى للولايات المتحدة فإنه يمكِّنها من العربدة كما يروق لهافي الضفة وغزة، وفي لبنان وأحياناً أيضاً بابعد من ذلك. أن تقمع شعباً، وأن تبني مستوطنات. أن تسخر من العالم وأن تتجاهل القانون الدولي، وأن تتحرش وتعتدي. الآن جاء الرئيس الأكثر يمينية والأكثر قومية متطرفة من بين رؤسات الولايات المتحدة، أكبر أصدقاء الاحتلال الاسرائيلي، ليقول لمن هيمن رعاياه: عليكِ أن تواجهي الأمور وحدكِ، وسنرى كيف ستقومين بذلك.
الأمر يدور حول مشروع تجريبي، مشروع سوريا التجريبي. ترامب اتخذ خطوة (BDS) مقاطعة: لقد قاطع اسرائيل. اذا واصل بهذه الصورة فإن اسرائيل ستضطر إلى السير في طريق لم تسر فيها في يوم ما. بالتحديد ترامب من بين كل الرؤساء من شأنه أن يجعلها بدون قصد تغيِّر الاتجاه. أنتفهم أن هنالك مشكلة وأن هنالك حدود لقوتها، وأنها ليست هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط، وأن شعبها ليس مختاراً، وليس شعب الله المختار، وأنه ليس كل شيء مسموح به، فقط لأنها تستطيع؛ وأنه يجدر التفكير والحديث والتنازل، وأن الاحتلال والأبرتهايد برعاية الخناجر لن يصمد للأبد. ربما ترامب من بين كل الناس هو من يفعل ذلك.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف