استقالة وزير الدفاع الأمريكي الجنرال جيمس ماتس تعكس هزة غير عادية، حتى بمفاهيم قطار الجبال المسمى إدارة ترامب. ماتس حتى في أعين معارفه الكثيرين في جهاز الأمن الإسرائيلي، يعتبر جزيرة عقلانية واستقراراً في الإدارة الأمريكية. ولكن مع الاقتراب من منتصف فترة ولاية الرئيس، فإن الإدارة الأمريكية تتصرف مثل الرجل الذي يقف على رأسها ـ متقلب، يجد صعوبة في التعامل مع اعتبارات مركبة، وطبقاً لذلك أيضاً يصعب التكهن به، وهو خطر على نفسه وعلى محيطه.
رسالة الاستقالة ذات الصفحة والربع التي أرسلها وزير للرئيس شائقة. ماتس يشرح فيها لترامب كما يشرحون لطفل لديه مصاعب معرفية، المبادئ التي توجه السياسة الأمريكية في العقود الأخيرة: التزام الولايات المتحدة بقيادة جدول أعمال ديموقراطي عالمي، وإدارة نظام تحالفاتها الحيوية، وخصماها الاستراتيجيان (الصين وروسيا)، ماتس يلخص ذلك بقوله للرئيس ـ من حقك أن يكون لك وزير دفاع مواقفه قريبة أكثر من مواقفك، في الرسالة ليست هنالك أي كلمة طيبة عن الرجل الذي عينه في هذ الوظيفة.
بقدر ما يتحرر الرئيس ترامب من خشية المستشارين ومن المستشارين أنفسهم فإنه يعمل طبقاً لغرائزه التي يتفاخر بها. تلك الغرائز توافق أيضاً المواقف المتشككة لجزء من ناخبيه، والذين يرون في تبجح أمريكا بقيامها بدور الشرطي في العالم (بالتأكيد في عهد الرئيسين كلينتون وبوش؛ وبدرجة أقل لدى أوباما) هو مضيعة للأموال وخطير وزائد.
لهذا القرار كان كما يبدو أيضاً اعتبارات سياسية أكثر آنية. التحقيقات ضد الرئيس تتقدم، وبعد حوالي شهر سوف يؤدي القسم مجلس نواب مناوئ لترامب، والذي سيصعِّب عليه تحقيق مبادراته في مجال السياسة الداخلية. ترامب يحتاج إلى خطوة سريعة تصرف أنظار «قاعدته»، النواة الصلبة لناخبيه، وتفرحهم.
قريباً من إسرائيل، في الشرق الأوسط، فإن الانسحاب من سوريا واستقالة ماتس تشيران إلى ضعف النفوذ الأمريكي في المنطقة، كما أنها تضع محل سخرية إلى حد ما الإطراء الذي وجهه لترامب سياسيون ورجال إعلام إسرائيليون بعد قراراته السابقة، بشأن الهجوم العقابي في سوريا، والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ونقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس.
«بدلاً من التركيز مع ترامب على سوريا، فقد أصررنا على نقل السفارة»، قال أول أمس (الخميس) الجنرال احتياط غيورا آيلاند، رئيس مجلس الأمن القومي السابق، في مقابلة لمحطة إذاعة 103 إف أم: «الله وحده يعرف ماذا استفدنا من ذلك».
في الوقت نفسه، روسيا تفهم الآن، بصورة أشد، بأن مكانتها في الشرق الأوسط تعاظمت وأن الأمريكان لن يسارعوا في المواجهة معها حول قراراتها المستقبلية بخصوص سوريا.
ولكن التفكير بأن نتنياهو يستطيع أن يناور بين الدولتين العظميين، كما يريد، كان لا أساس له من الصحة. أتباعه الحمقى فقط هم من صدَّقوا ذلك. بوتن من شأنه أن يسمح باحتكاك محدود بين إسرائيل وإيران في سوريا، طالما أن الأمر يعزز مكانة روسيا باعتبارها الوسيط المحتمل الوحيد بين الطرفين ولا يعرض للخطر الفوري مشروعها الأساس في المنطقة، ألا وهو الحفاظ على نظام الأسد.
الأكثر أهمية لإسرائيل هو أن الانسحاب من الجيب الأمريكي حول قاعدة «التنف» القريبة من حدود سوريا مع العراق والأردن، سيزيل العقبة التي منعت عبوراً إيرانياً حرًا في الممر البري ما بين طهران وبيروت.
إذا تحولت سوريا إلى ساحة لعب لدولة عظمى واحدة، فإن هذا يشكل انعطافة مقلقة لإسرائيل. بوتن بعيد عن أن يكون وسيطاً مؤيداً لإسرائيل، وطهران من شأنها أن تفسر انسحاب الأمريكان واستقالة ماتس كتطورات مشجعة، والتي ستزيد من حرية عملها في المنطقة. وبصورة غير مباشرة، حتى وإن كانت موسكو غير راضية عن ذلك، فإن خطر الحرب سوف يتصاعد في الشمال في 2019.
في جو الانتخابات القريبة والائتلاف الآخذ في الانحلال يزيد تطرف الخطوات المتخذة ضد الفلسطينيين، من هدم بيوت «المخربين» وحتى مشاريع قرارات خطيرة بطرد عائلاتهم. وفي الوقت الذي يَحذر فيه نتنياهو قدر استطاعته من مواجهة عسكرية مع حماس، فإن الخطوات في الضفة الغربية من شأنها أن تشعل ضجة، بالتحديد في مناطق السلطة الفلسطينية، تلك التي تواصل على مضض الحفاظ على التنسيق الأمني مع إسرائيل.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف