القاسمٌ المشترك بين المحتجين كان الإحساس بالظلم والقهر أولاً، والاندفاع من ثمّ للتعبير عن غضبهم وسخطهم ضد سياسات أثقلت كاهلهم وجعلتهم غير قادرين على توفير المتطلبات الأساسية لحيواتهم
ودّع العالم عام 2018 على وقع احتجاجات صاخبة شملت عدداً لا بأس به من دول العالم؛ سواء المتقدّم منها أم النامي، (من فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية إلى تركيا وإيران والسودان ولبنان والعراق والأردن وتونس)، حيث ظهر العالم خلالها وكأنه يمرّ في مرحلة مخاض عسير، وبدا النظام الرأسمالي بمؤسساته التقليدية المتقادمة والمنهكة، (وخاصة هيئاته المالية، وبرامجها وشروطها للإقراض و«الإصلاح الاقتصادي» المَبنيّة على إجبار الفقراء على التقشف والتضحية)، عاجزاً عن تقديم بدائل ترضي الطبقات الوسطى والفقيرة، التي قرّرت النزول إلى الشارع للدفاع عن بقائها وحقّها في الحياة وتلبية احتياجاتها الأساسية.
وعلى رغم أنّ التحذيرات من إمكان تهاوي النظام الرأسمالي العالمي ليست جديدة، بل انطلقت منذ عهود بعيدة، وتجدّدت مع بروز الأزمة المالية والاقتصادية العالمية عام 2008، حيث توقع البعض أن تفضي إلى استبدال الرأسمالية بـ«نظام أكثر عدلاً»، يعتمد مفاهيم وصيغٍ جديدة قادرة على تغيير رؤية الإنسان وتعاطيه بشكل أفضل مع علاقات الانتاج والتوزيع والنُظم الاقتصادية والاجتماعية المُعتمدة، إلا أنّ العديد من مراكز الدراسات والبحوث والمُحللين مازالوا يستبعدون ذلك، ويُشدّدون على أن النظام الليبرالي بشكله الحالي سيستمر، لكنه سيبقى عاجزاً عن ابتكار حلول ناجعة ومستديمة للأزمات المتجدّدة والمعضلات المطروحة،ولن يُقدّمَ سوى مسكنّات آنية لها لا أكثر!.
ولئن تعدّدت أسباب ودوافع الاحتجاجات في البلدان المعنية، فقد جمع بينها قاسمٌ مشترك هو الإحساس بالظلم والقهر أولاً، والاندفاع من ثمّ للتعبير عن غضبهم وسخطهم ضد سياسات أثقلت كاهلهم وجعلتهم غير قادرين على توفير المتطلبات الأساسية لحيواتهم.
من البروليتاريا إلى البريكاريا
وإذا درجت العادة على أن تكون الطبقة العاملة الصناعية (البروليتاريا) هي الفاعل الرئيسي في كل تحرّك احتجاجي أو انتفاضة ضد الرأسمالية، فإن الحراك الذي يربك النظام العالمي والدول اليوم تقوده وتشارك فيه فئات باتت تشكّل طبقة جديدة، أطلق عليها البعض اسم «البريكاريا»، وعرّفها بأنها تلك «الفئات والشرائح التي برزت خلال مرحلة العولمة، وتضمّ عدداً كبيراً من الأشخاص غير المستقرين في وظائفهم وأعمالهم. والملايين من الشباب المتعلمين المُحبطين، غير الراضين عن أوضاعهم، إضافة إلى ملايين النساء اللواتي يشعرن بالظلم، فضلاً عن ملايين المهاجرين في جميع أنحاء العالم، الذين يشعرون أنهم أغلبية مقهورة، وأنّ حقوقهم الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية مهدورة».
وعلى عكس التصنيفات الكلاسيكية للطبقات الاجتماعية، فإنه يصعب وفق العديد من المفكرين تصنيف أفراد طبقة البريكاريا، حيث يرى بعضهم أنهم «لا ينتمون إلى أي مجتمع مهني أو حرفي. وليس لديهم ذاكرة اجتماعية، ولا آمال مستقبلية»، وتتصف أعمالهم بـ«الجهد الكبير»، مع القيام بمجموعة من الأنشطة غير مدفوعة الأجر، (ولكنها ضرورية لهم إذا ما أرادوا الاحتفاظ بوظائفهم والحصول على دخل محترم).
وهم يلقون باللوم على حكوماتهم العاجزة عن توفير الحد الأدنى المطلوب لضمان فرص عمل آمن ومستمرّ. ويُشدّد بعض المحللين على أنه في المجتمعات الرأسمالية التي يكون فيها العمل المرن غير المستقر أمراً شائعاً، فإن «انعدام الأمن الاقتصادي، يغدو أمراً لا يمكن تحملّه». قبل أن يضيفوا أنّ «البريكاريا» توسّعت كثيراً في السنوات الأخيرة بسبب عدم عجز الحكومات عن توفير فرص العمل.
ومع تعقّد الوضع الاقتصادي العالمي، وعجز الساسة عن ابتكار بدائل جديدة تحل محلّ الليبرالية، فإنّ ذلك ساهم بالنهاية في إفساح المجال أمام تنامي الأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية في أوروبا والغرب، وقبلها أحزاب «الإسلام السياسي» في الدول الإسلامية.
وفي هذا السياق، يلاحظ العديد من الباحثين أنّ انعدام الأمن يُعزّز التطرف، بكل أنواعه. وأنّ الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية يمكن أن تؤدي إلى انسياق أعداد كبيرة من أفراد «البريكاريا» إلى الارتماء في أحضان تنظيمات إرهابية، أو عصابات إجرامية. ويفسر الخبراء نزعة العنف لدى هؤلاء بسبب شعورهم بالإحباط واليأس، من جهة، ورغبة منهم في الانتقام، من جهة ثانية، ليس من منظومة الحكم فحسب، بل من الدولة ذاتها التي لم تنجح في تأمين فرص عمل آمنة لهم.
وقد كشف التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية في مطلع عام 2018، عن أن هناك نحو 200 مليون شخص في العالم لا يتمتعون بعمل أمن ومستقر. في حين أنّ هناك نحو 4 مليارات شخص دون أي ضمانات اجتماعية أو صحية، أو إعانات لمواجهة المرض والفقر والعوز، بحسب ما تشير إليه تقارير منظمة العمل الدولية.
وأظهرت استطلاعات الرأي عقب تحرّك «السترات الصُفر» في فرنسا أن ثلاثة أرباع الشعب الفرنسي غير راضٍ عن الطريقة التي يدير بها الرئيس إيمانويل ماكرون وحكومته البلاد، وأن أغلبية تريد أن ترى إجراءات ملموسة لتحسين أجور الأُسَر محدودة الدخل. وتشير أحدث بيانات العمل الفرنسية إلى أن إجمالي عدد العاطلين في فرنسا يقارب ثلاثة ملايين شخص، وهو رقم ضخم في بلد يُعدّ من أكبر القوى العالمية اقتصادياً وسياسياً.
ثورة على «الثورة»!
المدّ الاحتجاجي الفرنسي ساهم بتغذية الاحتقان الكامن في بعض الدول العربية وغير العربية، بما فيها تلك التي كانت عشية الذكرى الثامنة للاحتفال بثورتها، مثل تونس (14/1/2011). أو تلك التي ما انفكّت تتخبط منذ عقود بأزمات سياسية واقتصادية لا فكاك منها، مثل السودان.
ففي تونس، التي كانت منطلقاً لما عرف بثورات «الربيع العربي»، عمّت الاحتجاجات محافظات ومناطق عدة فيها، وقد أقدم أخيراً مصور تلفزيوني على إحراق نفسه احتجاجاً، مثلما فعل من قبله محمد البوعزيزي في بداية الثورة، في وقت عجزت فيه الحكومات المتعاقبة منذ ثورة 2011، عن تحقيق الاستحقاقات الاجتماعية والمعيشية للتونسيين، المتمثلة أساساً في الخبز والكرامة، حيث تبلغ نسبة البطالة قرابة 15% ويناهز عدد العاطلين عن العمل 650 ألفاً، أكثر من ثلثهم من حاملي الشهادات العليا. ويعتبر العديد من الخبراء، أن هؤلاء العاطلين هم من كانوا وراء تأجيج الثورة التونسية أصلاً، إلا أنهم لم يحققوا أياً من مطالبهم، ولديهم شعورٌ بالإحباط على خلفية إدراكهم أنّ «فئات أخرى ركبت على ثورتهم وحسّنت من أوضاعها وضاعفت أجورها، على عكس ما حصل معهم تماماً، حيث بقي أغلبهم فاقداً للعمل الآمن».
وعلى الغرار نفسه، تتسارع الأحداث في العراق الذي يعاني منذ نحو 15 سنة، من توتر أمني وتنامي مظاهر الفساد، وذلك على وقع احتجاجات تركّزت، أساساً، في مدن وسط وجنوبي البلاد، للمطالبة بتوفير وظائف وتحسين الخدمات خاصة المياه والكهرباء، إضافة إلى القضاء على الفساد في الجهاز الحكومي.
وقد يختلف الوضع في بعض التفاصيل في الجزائر، إلا أنّ الشارع هناك يعيش، كما تتناقل وسائل الإعلام، حالة غضب مزدوجة، منها ما يتصل بانتخابات الرئاسة، ومنها ما يتصل بالأوضاع المعيشية في بلد أغلب شبابه عاطل عن العمل، وطبقاته المتوسطة والضعيفة لم تعد قادرة على مجاراة غلاء المعيشة.
وفي إيران أيضاً، مع حفظ الخصوصية التي تعيشها بسبب العقوبات المفروضة عليها من قبل إدارة ترامب، فإن السياق العام للاحتجاجات التي تشهدها البلاد منذ نهاية عام 2017، لا تختلف عن نظيراتها في العالم، من حيث التنديد بالغلاء والفساد والسياسات الاقتصادية الخاطئة. وتنقل وكالات الأنباء عن أنّ الفئات الشابة الفاقدة لفرص عمل تطالب بالتغيير، وهي لا تختلف عن فئات أخرى في مختلف أنحاء العالم، حيث يسود الشعور بعدم الأمان الاقتصادي.
عودة إلى المطالبة بـ«إسقاط النظام»
أما في السودان، فقد انتقلت التظاهرات خلال فترة قصيرة من المستوى المطلبي؛ (الاحتجاج على رفع الأسعار والأوضاع المعيشية)، إلى مستوى الدعوة إلى إسقاط النظام، وخاصة بعدما شهدت الاحتجاجات سقوط عشرات القتلى والجرحى.
وتمثّل صورة الاحتجاجات في الأردن الصورة الأدق لنفاد صبر المواطنين من النظام الاقتصادي الذي يحكم البلاد، بمنطق إملاءات الهيئات المالية المانحة. وشهد الأردن خلال 2018 احتجاجات على الأوضاع الاقتصادية السيئة وفرض ضرائب جديدة، انتهت باستقالة حكومة هاني الملقي وتشكيل حكومة عمر الرزاز، الذي لم ينجح، بدوره، في تهدئة الشارع الذي لا يزال يرفع نفس الشعارات والمطالب؟!.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف