دائما سأبقى شاكرا لبني موريس: لقد فتح عيني. كتابه “ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، 1947 – 1949” اثار كل من تربى على الرواية الصهيونية. فجأة حدثت نكبة، فجأة كارثة وطنية، طرد جماهيري، تطهير عرقي – ولم يبلغونا أي شيء عن ذلك. بعد ثلاثين سنة على ذلك يأتي موريس ليتنبأ بالنهاية: “هذا المكان سيغرق مثل دولة شرق اوسطية فيها اغلبية عربية… اليهود سيبقون اقلية صغيرة داخل بحر عربي كبير من الفلسطينيين – اقلية مضطهدة أو سيتم ذبحنا” (مقابلة مع عوفر اديرت، “هآرتس” أول أمس). من احسن وصف المقدمة يخطيء بصورة متعمدة في وسط النهاية. موريس لا يستجمع الشجاعة للحديث عن العلاقة المباشرة بين البداية والنهاية، بين ما فعله اليهود منذ بداية الصهيونية واستمر منذ ذلك الحين وبين ما يتنبأ به كنهاية لدولته.
نبوءات فظيعة عن نهاية الدولة ترافقها منذ ولادتها. العرب سيتكاثرون، سيطردون ويذبحون. هذا خدم جيدا الدعاية الصهيونية: اقلية أمام اكثرية، داود امام جوليات، ينهضون من اجل إفنائنا. في الواقع: حدث العكس. الاسرائيليون تكاثروا، سلبوا، طردوا، قتلوا واحيانا ذبحوا. موريس يستخف بذلك: “قمع معين، يشمل هنا وهناك جرائم صغيرة”، هو يسمي عشرات سنين الديكتاتورية العسكرية، من اكثر الديكتاتوريات وحشية في العالم الآن، جريمة حرب كبيرة ومستمرة. المؤرخ الذي ندم على أن اسرائيل لم تطرد كل العرب وراء النهر في 1948، الباحث الذي طرح خياران، التطهير العرقي أو ابادة شعب، والذي اقترح حبس كل الفلسطينيين في قفص لأنه “يوجد هناك حيوانات برية”، لا يعرف الآن “كيف يخرجهم من ذلك”. في صالحه يجب أن نذكر أنه يدرك أن حل الدولتين لم يعد قائما. وضده يجب أن نقول إنه يلقي كامل التهمة على الفلسطينيين. من يتهم العرب بعدم النقد الذاتي يظهر كصهيوني نموذجي، صهيوني يتهم العرب دائما بكل شيء. حله هو “لعب اللعبة الدبلوماسية من اجل الحفاظ على تأييد الغرب”. اذا كان هذا ما تبقى للصهيونية لتفعله، فقد انتهى المشروع واستكمل.
ولكن هذا ليس هو الخيار الوحيد. مستقبلية موريس البائسة تعاني من العمى ازاء الاحتمالات الاخرى. من يلغي العلاقة بين تنكيل الصهيونية بالفلسطينيين والكراهية التي يكنونها لاسرائيل، لا يخطر بباله أن تغيير أحد جوانب المعادلة يمكن أن يؤدي الى تغيير الجانب الآخر.
وفقا لموريس وامثاله، العرب ولدوا كي يقتلوا. كل فلسطيني يستيقظ في الصباح ويسأل نفسه: أي يهودي سأذبحه اليوم، وأي يهودي سألقيه في البحر. نوع من الهواية. اذا كان الامر هكذا، فلا يوجد ما نقوله ولا من نتحدث معه. مدرسة الكذب هذه تحرر الصهيونية من الذنب، وتحرر اسرائيل من المسؤولية. على أي حال ما ستفعله سيواجه بالذبح – هذا فقط مسألة وقت. ولكن المؤرخ الذي وصف كيف بدأ كل ذلك، والذي فهم أن البداية كانت مقرونة بالخطأ الاول، التهديد الفظيع، اقتلاع وطرد مئات آلاف بني البشر وبعد ذلك منعهم من العودة بالقوة، الذي وصفه في كتابه التالي، غير مستعد للربط بين السبب والنتيجة.
ربما، يا موريس، هناك خيارات اخرى. اولا، ما صمد سبعين سنة، بما فيها خمسين سنة من الاحتلال، يمكن أن يستمر 100 سنة اخرى وربما 200. الفلسطينيون اضعف مما كانوا دائما. واسرائيل اكثر قوة مما كانت في أي وقت، والعالم يفقد اهتمامه. الوضع الراهن الظالم سيستمر ويتخلد. هناك احتمال كهذا. ولكن هناك احتمال آخر، اكثر تشجيعا: عندما يحصل الفلسطينيون على المساواة والعدالة المتأخرتين، لن يكونوا نفس الفلسطينيين، الذين في ظروف الحرية والاحترام، التي لم يحصلوا عليها في أي يوم، ربما سيكون بالامكان تأسيس واقع آخر وعلاقات اخرى، في دولة ديمقراطية واحدة. بهذا لم يفكر موريس، ولا الصهيونية. هذا من شأنه أن يفرض عليها المهمة التي يجب عليها القيام بها.
مرة اخرى أجد نفسي شاكرا لموريس: بعماه وتشاؤمه ذكرني بالأمل، حتى لو كان بعيدا اليوم عن التحقق.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف