انعقدت القمة العربية في تونس ( القمة الـ 30 ) في ظل وضع سياسي في المنطقة العربية يزداد اضطراباً.
• فالقضية الفلسطينية تزداد تعقيداً في ظل الخطوات التطبيقية لصفقة ترامب، التي لم تكتفِ بما حققته حتى الآن، بشأن مدينة القدس، وقضية اللاجئين، وحق العودة، ووكالة الغوث، وفرض الحصار المالي على السلطة الفلسطينية، وإغلاق مكتب مفوضية فلسطين في واشنطن. بل امتدت نحو الأسس القانونية للقضية الوطنية، كما أرستها الشرعية الدولية بقراراتها ذات الصلة، واعتبرتها «قيماً ومعادلات قديمة»، وحمّلت هذه «القيم» وهذه «المعادلات» فشل عملية التسوية تحت سقف أوسلو، وبرأت الجانب الإسرائيلي من سياسته المتعنتة التي وقفت، باعتراف وزير الخارجية الأسبق جون كيري، وراء تعطيل المبادرات الأميركية، والتي كانت لا تخفي انحيازها للجانب الإسرائيلي. كما مهدت، على غرار ما مهدت له بشأن الجولان السوري المحتل، بتصريحات لسفير ترامب في القدس المحتلة، ديفيد فريدمان حول عزم ترامب الاعتراف «بالسيطرة» الإسرائيلية على المنطقة (ج)، أي ضمها إلى دولة الاحتلال، في إطار رسم خارطة التسوية النهائية، كما تخطط لها السياسات الأميركية الإسرائيلية على حساب المصالح الوطنية المشروعة لشعب فلسطين، وفي إطار التحضير للإعلان عن بقايا «الصفقة» بعد الانتخابات التشريعية الإسرائيلية، في التاسع من هذا الشهر ( نيسان/ إبريل ).
• كذلك تشهد العلاقات الفلسطينية الداخلية حالة من التشتت والانقسام. من جهة بين فتح وحماس، ومن جهة أخرى بين فصائل م.ت.ف بفعل تعطيل الطرفين تطبيق تفاهمات إنهاء الانقسام، من جهة وبفعل سياسة الانفراد بالقرار في م.ت.ف وتعطيل أسس الائتلاف والشراكة الوطنية، بما في ذلك تعطيل قرارات المجلسين المركزي والوطني، ورسم الاستراتيجية الكفاحية ضد دولة الاحتلال وإجراءاته.
• من جهة أخرى تواصل الإدارة الأميركية انتهاك قرارات الشرعية الدولية، والتعدي على الحقوق المشروعة للشعب السوري، من خلال الاعتراف بما سمي «السيادة الإسرائيلية» على الجولان السوري المحتل في إطار إعادة رسم خرائط المنطقة، وفقاً للمصالح الأميركية الإسرائيلية وإسهاماً في بناء «إسرائيل الكبرى» على حساب المصالح القومية والوطنية للشعوب العربية.
• كذلك شهد العام الماضي حركة انفتاح ملحوظة لبعض الأنظمة العربية مع دولة الاحتلال، في انتهاك فاقع وفظ لقرارات القمم العربية، وتحدٍ استفزازي لمشاعر ملايين الفلسطينيين والعرب والمسلمين، على طريق التطبيع التدريجي للعلاقات مع دولة الاحتلال، بينما هي تواصل احتلالها للأراضي الفلسطينية والعربية، وارتكاب الجرائم بحق شعوب المنطقة، ما ينذر بانهيار لمبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت عام 2002.
• دون أن نتجاهل الحرائق المشتعلة في ليبيا واليمن، والصومال، والعدوان الأميركي الإسرائيلي على سوريا، وتصاعد الحراك الشعبي في السودان والجزائر، والنشاط الإرهابي في سيناء وأنحاء أخرى في مصر ضد الشعب المصري، والتهديد الإسرائيلي للمصالح الوطنية اللبنانية، هذا كله، دفع الكثيرين للرهان على أن القمة الـ 30، يفترض أن تشكل محطة مميزة في مسيره النظام العربي الرسمي.
(2)
مما لاشك فيه، ورغم بعض اللغة الإيجابية في بعض فقرات البيان الختامي للقمة، إلا أن المراجعة المعمقة لما انتجته القمة من شأنها أن تزرع الخيبة في النفوس فقد أعادت القمة التأكيد على دعوتها الاستراتيجية للسلام مع إسرائيل علماً أن هذه الاستراتيجية، التي طرحت منذ مبادرة الملك فهد في العام 1983، لم تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، وظلت تراوح مكانها بطريقة بائسة، بينما يواصل التحالف الأميركي ـــــ الإسرائيلي التقدم في مشروعه التوسعي على حساب مصالح الشعب الفلسطيني وباقي الشعوب العربية. وقد تقدمت الاستراتيجية العربية «خطوة إلى الأمام» (!) حين قدمت حق العودة للاجئين على مذبح مبادرتها للسلام، وهو ما أعادت التأكيد عليه في بيان تونس، حين أعادت التلويح بقضية اللاجئين كورقة مقايضه، مقابل قبول إسرائيل بالسلام مع العرب .
الصورة تقول إن الاحتلال الإسرائيلي هو سبب الحروب في المنطقة. إذن هل المطلوب استراتيجية للسلام، أم استراتيجية لاستعادة الأراضي الفلسطينية والعربية من قبضة الاحتلال؟ الملاحظ في هذا السياق أن الحالة الرسمية العربية وهي تؤكد، ، تمسكها بمبادرة السلام، ترد إسرائيل على هذه المبادرة بالمزيد من الإجراءات الميدانية الهادفة إلى ترسيخ بقاء الاحتلال وفرض وقائع، تحوله إلى «حالة طبيعة»، على غرار ما وصف ترامب الاحتلال الإسرائيلي للجولان. بالمقابل، ورغم التأكيد على أسس تطبيق المبادرة العربية، يلاحظ أن عدداً من الأنظمة العربية الخليجية، تحديداً، وهي شريك للعربية السعودية في مجلس التعاون الخليجي، يخرق، المبادرة العربية ومن يمارس سياسة الانفتاح على دولة الاحتلال، دون أن يكون لهذه الخطوات أية ردة فعل لا في جامعة الدول العربية، ولا في قمة تونس. لذلك غابت عن القمة قضية التطبيع مع إسرائيل، بذريعة أن مثل هذه السياسات تندرج في سياق السيادة الخاصة بكل نظام، ما يعني نسف الأساس السياسي للمبادرة العربية، ونسف مبدأ الالتزام القومي بالمبادرة، ما يحول المبادرة إلى مجرد وجهة نظر بائسة، وغلالة رقيقة لتستر هشاشة النظام الرسمي العربي، وافتقاره إلى استراتيجية عربية لاستعادة الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة.
إن أية استراتيجية «للسلام»، تضمن استعادة الأراضي العربية المحتلة، والفوز بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، كما هو وارد في مبادرة بيروت (مع تحفظ كبير على مسألة اللاجئين وحق العودة) يفترض أن تستند إلى عناصر القوة، وليس عناصر الهبوط بالخطوات والتقارب مع دولة الاحتلال، والانصياع للضغوط الأميركية. بما في ذلك فرض الحصار والمقاطعة الشاملة على إسرائيل، والضغط على الولايات المتحدة، مستفيدين من عناصر القوة باليد العربية، والضغط على مصالح الدول التي تتساوق مع دولة الاحتلال، في المحافل الدولية، أو في العلاقات الثنائية، ودعم نضالات الشعب الفلسطيني والدول العربية التي لها أرض محتلة من قبل إسرائيل. وهذا ما غاب بشكل كامل عن قمة تونس.
(3)
وإذا اعتبرنا مسألة الاستراتيجية السياسية مع دولة الاحتلال، هي القضية المفتاحية لتقييم نتائج قمة تونس، فإن ما جاء في البيان الختامي عن القضية الفلسطينية كان شديد الهبوط، ولا يستجيب للحد الأدنى من المصالح الوطنية والقومية للشعب الفلسطيني.
فقد عرضت القمة قضية اللاجئين في سوق المناقصات مع الجانب الإسرائيلي، «لإغرائه» بالقبول بمبادرة بيروت للتسوية (2002)، علماً أن المبادرة نفسها كانت قد أسقطت حق العودة من نصوصها، وبنودها، وقدمت هذا الحق في إطار التنازلات غير المشروعة، لشق الطريق أمام المبادرة. وها هي القمة مرة أخرى، وأمام ناظري القيادة الرسمية الفلسطينية وفي حضورها، تقدم حق العودة هدية مجانية لإسرائيل في الوقت الذي لا تعبأ فيه حكومة نتنياهو بمثل هذه الهدايا، ومازالت تتطلع إلى أبعد من هذا، أي إلى مجمل المشروع الوطني الفلسطيني بكل عناصره ومكوناته، بما في ذلك حق العودة، وقيام دولة مستقلة، وشطب حق تقرير المصير، وشطب الكيانية الفلسطينية ككيانية مستقلة معترف بها في المنطقة. وما يكرس الفلسطينيين في الـ 48 مجرد سكان من الدرجة الرابعة باعتبار أن الدرجة الثانية والثالثة محفوظة لبعض اليهود الشرقيين ويهود الفلاشا.
كما تجاهلت القمة العربية مبدأ حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، كما تكفله قرارات الشرعية الدولية؛ وهي وإن كانت قد تحدثت عن دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 4 حزيران 67، إلا أنها في الوقت نفسه، افقدت هذه القضية مضمونها الفعلي، حين أعادت أمر تحقيق هذه الدولة إلى مفاوضات ثنائية، إسرائيلية - فلسطينية، دون أية إشارة إلى المؤتمر الدولي الذي يكفل هذا الأمر، بل اكتفت بمبادرة بيروت و«رؤية الرئيس»، أي أن القمة العربية صادقت على بقاء الحالة الفلسطينية تحت سقف بقايا أوسلو، وتجاوزت البرنامج الوطني الفلسطيني، برنامج تقرير المصير والعودة والاستقلال، برنامج الانتفاضة والمقاومة وتدويل القضية في الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية.
وإذا ما ربطنا بين هذا، وبين التلويح بالتنازل عن حق العودة للاجئين، أدركنا حقيقة السقف السياسي لاستراتيجية السلام المزعومة كما تبنتها القمة العربية، وأدركنا هشاشة الموقف الرسمي العربي من القضية الفلسطينية، وأدركنا، في الوقت نفسه، أهمية إعادة بناء الحالة الوطنية الفلسطينية على أسس ديمقراطية، وأهمية تأطير الحركة الشعبية الفلسطينية الناهضة، وأهمية إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الداخلية. وأدركنا خطورة الرهان على النظام الرسمي العربي، في حالته الراهنة، وهشاشة الموقف الرسمي الفلسطيني في كلمة فلسطين في القمة، وحقيقة الاستحقاقات المقبلة على القضية الوطنية في الأيام القادمة.
(4)
إذا انتقلنا إلى باقي الملفات الساخنة، كالقدس، والجولان، وغيرها من الملفات المتعلقة بالصراع مع إسرائيل، نلاحظ أن القمة اكتفت بالمواقف الكلامية، فهي «رفضت» و«استنكرت» و«دعت» و«أيدت» إلى آخر ما هناك من تلاوينه المواقف وعباراتها المعهودة. لكن لم يلحظ أن هذه المواقف قد أسندت بإجراءات عملية، من شأنها أن تردع البعض، وأن تحذر البعض الآخر، وأن تشكل حصانة للحق القومي والوطني للشعوب العربية. منها على سبيل المثال قضية القدس، التي أقرت القمم العربية مقاطعة الدول التي تعترف بها عاصمة لإسرائيل أو تنقل سفاراتها إليها. لم تخطُ الأنظمة العربية خطوة واحدة في هذا المضمار تطبيقاً للقرار، مع أن عدداً من الدول لحقت بالإدارة الأميركية في موقفها من القدس، وآخرها، على سبيل المثال، البرازيل التي (ربما) تعمدت أن يصدر قرارها بافتتاح قنصلية لها في القدس، امتدادا لسفارتها في تل أبيب، في الوقت الذي كان فيه قادة الأنظمة العربية يجتمعون في تونس.
في السياق نفسه، يلاحظ أنه في الوقت الذي عزفت فيه القمة العربية نشيد السلام مع إسرائيل، نراها قرعت طبول الحرب مع جمهورية إيران، في صياغة عملية استراتيجية جديدة، بدفع مكشوف من الولايات المتحدة الأميركية، تعيد صياغة «المعادلات والمفاهيم والقيم»، وتسقط عن إسرائيل صفتها عدو الأنظمة العربية وشعوبها وتدعوها للسلام، وتسبغ على إيران صفة الخطر الذي يتهدد المصالح العربية. ومع أن إسرائيل تحتل الضفة الفلسطينية، والقدس، والجولان، ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا ومقاطع من الغور الأردني، إلا أن بعض الأنظمة العربية لا تتردد في توقيع معاهدات سلام معها، وتقيم علاقات «غير رسمية» في إطار الانفتاح التدريجي عليها، وكسر قرارات التطبيع. أما مع إيران، وبسبب ملف الجزر الثلاث، ولأسباب سياسية، فيها محاولة لخلق ثنائية صراع بديلة لثنائية الصراع العربي الإسرائيلي، تناصب طهران العداء، وتقاطعها، في انسياق واضح المعالم مع سياسة الولايات المتحدة في إسقاطها الاتفاق النووي مع العاصمة الإيرانية، وفرض الحصار عليها في أكثر من مجال، وفرض العقوبات على الشعب الإيراني.
مرة أخرى، نعيد القول، إننا إذا ما ربطنا بين القضية المفتاحية، أي استراتيجية الأنظمة العربية للسلام مع إسرائيل، وبين الموقف من إيران، أدركنا الحقائق السياسية التي تقف خلف هذا الموقف، وتفسير مغازيه وأهدافه وارتباطه بالتحالفات الإقليمية المعلنة مع الولايات المتحدة، والمبطنة مع إسرائيل.
(5)
تبقى مسألة أخيرة لكنها لا تشكل خاتمة للموضوع، بقدر ما تشكل خاتمة للمقالة فحسب، ألا وهي السؤال التالي: ما هو مصير قرارات قمة تونس؟ بل ما هو مصير قرارات قمة الظهران التي سميت بقمة القدس؟ من الواضح أننا لسنا إلا أمام حبر على ورق. وأن القرارات التي تتخذها القمم العربية باتت لا تلزم الأنظمة الأعضاء في الجامعة العربية، وأن تطبيقها وتنفيذها، مسألة تخضع لما يسمى بمبدأ السيادة الوطنية. وتحت هذا المبدأ، تتفلت الأنظمة العربية من واجباتها، ليس القومية فحسب بل وكذلك من واجباتها الوطنية نحو شعوبها نفسها. وإذا ما أدركنا أن القمم العربية تنتهي على الدوام دون تشكيل لجنة متابعة من رئيس الدورة، وعدد آخر من قادة الأنظمة العربية، والأمانة العامة لجامعة الدول العربية، بات واضحاً أننا لسنا سوى أمام مؤتمرات لا هدف لها سوى الحفاظ على شكليات باهتة، تثير سخرية المواطن العربي، أكثر مما تثير اهتمامه. لا تحظى بالمتابعة
والاهتمام إلا من قبل رجال الإعلام فقط. بينما تمضي المنطقة العربية، دون أي تغيير يلحظ، ودون أن تشكل هذه القمة أو تلك فاصلاً بين مرحلة وأخرى.
قمة أخرى، انعقدت في تونس، جددت مواقفها المعروفة: السلام لإسرائيل.. والحرب لإيران.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف