جاء الإعلان عن ولادة حكومة السلطة الفلسطينية الثامنة عشرة برئاسة الدكتور محمد اشتية باهتا ومرتبكا. وفي الوقت الذي كانت الحاجة الفلسطينية ملحة لاتخاذ إجراءات ملموسة تعيد الأزمات المتراكمة إلى أسبابها الفعلية وتبدأ ورشة وضعها على سكة الحلول، أصرت قيادة السلطة على المضي بتشكيل حكومة لا تملك القدرة (وإن أرادت)على حل أي معضلة مما تواجهه الحالة الفلسطينية.

ومن نافل القول، إن الحكومة حديثة الولادة مسقوفة بسياسات السلطة الفلسطينية التي جنحت كثيرا في العامين الماضيين تجاه اتخاذ إجراءات على خلفية الانقسام فأضرت بأهل قطاع غزة، وفاقمت تداعيات الانقسام. ولهذا، يسأل المراقبون عما هو جديد في سياسة الحكومة تجاه غزة وأزماتها، وعما إذا كانت قادرة فعلا على التقدم نحو إنهاء الانقسام، إلى جانب الكثير من المهام الكبرى التي تتصل بإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، وهي مهام تحتاج إلى جهد مشترك وموحد تقوم به مكونات الحالة الوطنية الفلسطينية دونما استثناء.

وهناك مهام حيوية مطروحة حول ما وصلت إليه العلاقات الفلسطينية الداخلية من ترد، ومن بينها في أطر ومؤسسات منظمة التحرير التي همشت على سياسة التفرد والهيمنة. وماذا تستطيع أن تفعل حكومة السلطة تجاه هذه الاشكالات التي تعصف بمرجعيتها.

ملفات الأزمة الفلسطينية المركبة أكبر من قدرة الحكومة ـ أي حكومةـ على حلها. لذلك، لا يمكن النظر إلى تشكيلها إلا باعتبارها خطوة بروتوكولية ضيقة تسعى لتدوير أزمة السلطة الفلسطينية وتغطية هروبها من الاستحقاقات الكبرى.

ترسيم ملتبس

على غير سابقاتها، تلا أعضاء الحكومة اليمين الدستورية مرتين. فقد أعاد رئيسها وأعضاؤها أداء اليمين أمام رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) في اليوم التالي لأدائهم القسم في الموعد المقرر لترسيم الحكومة (13/4)،بعد أن تبين أن هناك عبارة قد سقطت من نص اليمين عند تلاوته في المرة الأولى، بحسب ما نص عليه القانون الأساسي للسلطة، وهي عبارة «الإخلاص للشعب وتراثه القومي».

يذكر وأنه وبعد دقائق من إلقاء رئيس وأعضاء الحكومة الجديدة اليمين القانوني أمام الرئيس عباس، أثير الكثير من الجدل حول اقتطاع جزء من نص قسم اليمين المتعلق بالمادة 35 من القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية. وهذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك منذ قيام السلطة الفلسطينية. مما يعكس حجم الارباك الكبير والانشغال بتفاعلات الخلاف الدائر حول التشكيلة الحكومية. ولفت انتباه المراقبين أن عددا من الوزراء الجدد كان متوترا خلال أداء اليمين الدستوري، حيث تلعثم البعض في نطق اليمين، فيما أدى أحد الوزراء نصفه.

وفيما أحال المراقبون سقطة الخطأ في القسم إلى الارتباك وعدم التحضير المتقن لترسيم الحكومة، لم يستطيعوا إلا أن يتساءلوا عن سبب غياب «مركزية» فتح وأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عن مراسم تلاوة القسم. وفيما إذا كان هذا الغياب احتجاجا على تشكيل الحكومة على أرضية الخلافات التي اشتعلت في مركزية فتح حول تشكيلتها، أم تغييبا بخصوص عدم حضور أعضاء اللجنة التنفيذية ،على عكس البروتوكول المتبع عادة بوقوفهم إلى جانب الرئيس عباس، وكانت اللجنة من أبرز الغائبين في الأساس عن نقاش موضوعة تشكيل الحكومة والتقرير بشأنها على الرغم من أنها من المفترض أن تكون المرجعية الأولى في هذا الشأن.واللافت أن الحكومة على الرغم من ذلك ضمت عضوين من اللجنة التنفيذية للمنظمة وقد أثار الأمر جدلا عن سبب ووظيفة هذه الازدواجية بين الحكومة ومرجعيتها المفترضة.


حكومة لون واحد .. أم أقل؟

التغير في التشكيلة الحكومية مرات عدة في سياق عرضها على الرئيس عباس وردها من قبله مصحوبة بتعديلات على أسماء عدد من الوزراء ـ كما سربت في وسائل الإعلام ـ قرئت من قبل المراقبين على أنها تعكس التجاذبات الدائرة داخل اللجنة المركزية لحركة فتح التي يرى بعض أعضائها ـ بحسب المراقبين ـ أن الحكومة في تشكيلتها المطروحة «لا فصائلية ولا فتحاوية» وانما تعبر عن رأي وقرار المطبخ الرسمي الضيق الذي سبق وأن اتخذ قرارات تجاوزت اللجنة المركزية لحركة فتح في شؤون تمس الحركة مباشرة . وأن الحكومة بصيغتها النهائية لم تعكس حصيلة المواقف داخل اللجنة المركزية للحركة.

اللافت أن عددا من الفصائل في منظمة التحرير وهي جبهة التحرير الفلسطينية وجبهة التحرير العربية وجبهة التحرير العربية الفلسطينية سبق وأن أعطت موافقتها على المشاركة في الحكومة وقدمت مرشحيها لعضويتها، لكنها تفاجأت، وربما صدمت، عندما لم تجد ضمن التشكيلية النهائية أي من الأسماء التي رشحتها. على هذا، يتساءل المراقبون عن صحة ما أعلن قبل ترسيم الحكومة من أنها تضم ممثلي 7 فصائل من منظمة التحرير ومعهم كفاءات من المستقلين!

من هذه الزاوية بات ينظر إلى الحكومة في تشكيلتها الراهنة وحجم تمثيلها السياسي على أنها لا تغطي مساحة لون سياسي واحد ـ كما خلص مراقبون ـ وإنما تمثل فقط القسم المتنفذ فيه.

خلافات وتسويات

وتقول مصادر فلسطينية مطلعة إن عددا غير قليل من أعضاء اللجنة المركزية يعترض على أسماء كثيرة في التشكيلة الوزارية. وتحيل المصادر عدم تسمية وزيري الأوقاف والداخلية إلى حدة الخلافات حول الأسماء المقترحة، وربما تم اللجوء إلى تأجيل تسمية الوزيرين إلى حين التوصل إلى تسوية في هذا الشأن.

وكانت مصادر إعلامية نقلت عن مصادر فلسطينية أنه لم يتم التوافق على وزير الأوقاف، وأن قاضي القضاة محمود الهباش طرح لتولي الوزارة، فيما رفضت مركزية فتح ذلك، كما لم يتم التوافق على وزير الداخلية، حيث طرح للوزارة الحاج إسماعيل جبر مستشار الرئيس لشؤون المحافظات، وقائد القوات العامة، واللواء زياد هب الريح، رئيس جهاز الأمن الوقائي، لكن الخلاف ظل قائماً حتى اللحظة.

من ضمن التسويات التي جرت في الطريق إلى إعلان الحكومة حسم الخلاف حول من يتقلد وزارة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي، بعدما طرح اسمين لحمل حقيبتها تمترس كل طرف وراء مرشحه، إلى أن وجدا حلا عن طريق تقسيم الوزارة الى وزارتين واحدة للتربية والثانية للتعليم العالي والبحث العلمي، فرضي بذلك طرفا الخلاف!

وقالت المصادر الاعلامية أن تولى شكري بشارة، وزارة المالية، تم بضغوط من الرئيس عباس رغم معارضة مركزية فتح، وأنه أمام إصرار رئيس الوزراء د. محمد اشتية على تولي وزارة المالية، تم التوصل إلى حل وسط بنقل وحدة التخطيط من وزارة الماليّة إلى مجلس الوزراء.

تحديات أكبر من الحكومة

قبل تشكيل الحكومة بوقت كاف، وحتى قبل تكليف الدكتور اشتيه بتشكيلها، عبرت قوى وفصائل فلسطينية، وفي المقدمة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، بأن تشكيل حكومة بالصيغة والوظيفة التي طرحتها السلطة ليست أولوية وطنية في ظل الأزمة المركبة التي تعانيها الحركة الوطنية والنظام السياسي الفلسطيني برمته. ودعت بدلاً من ذلك إلى حكومة وحدة وطنية لمرحلة انتقالية تشرف على انتخابات شاملة رئاسية وتشريعية, تعيد بناء المؤسسة الوطنية وتنهي الانقسام. وأشارت إلى أن كل ما تفعله السلطة في هذا الأمر هو تغيير في أسماء من يشغلون المقاعد الوزارية، وهذا لا يتصل من بعيد أو قريب باستحقاقات المرحلة التي تواجهها القضية الفلسطينية وما تحمله من مخاطر كبرى على يد المشروع الأميركي ـ الاسرائيلي. وعلى هذا الأساس قالت الجبهة إنها لن تكون شريكاً في هذه الحكومة, وإن المسألة تتجاوز الحصص الوزارية نحو قضايا أشمل تطال المصالح الوطنية العليا لشعبنا.

عود على بدء

ومع ذلك، لا يمكن القول أن تشكيل الحكومة وممارستها مهامها يجب أن يكون ختام القول والفعل في سياق واجب بحث السبل لحل الأزمة الفلسطينية المركبة والاستعداد لمواجهة استحقاقات صفقة ترامب ومشروع نتنياهو التصفوي العنصري. والباب ما يزال مفتوحا لتشكيل حكومة وحدة انتقالية تحضر لانتخابات الرئاسية والتشريعية.

وقد تم التأكيد سابقا على أن القيادة الرسمية الفلسطينية لن تستطيع لأسباب كثيرة متكاملة أن تجد حلا للأزمة الفلسطينية المركبة لأنها بوضوح جزء منها. فقد خرجت الحوارات الفلسطينية الشاملة وخاصة حوار القاهرة في العام 2005 بقرارات هامة من بينها تشكيل «هيئة تفعيل م.ت.ف»، وتضم اللجنة التنفيذية في م.ت.ف، والأمناء العامين، ورئيس المجلس الوطني الفلسطيني، وعدد من الشخصيات المستقلة، جرى التوافق على تسميتها في ذلك الوقت من قبل الجميع. وعقدت هذه الهيئة سلسلة اجتماعات ناجحة، اتخذت خلالها العديد من القرارات الوطنية المتقدمة لكن قراراتها عطلت للأسف على يد القيادة الفلسطينية الرسمية التي احتكرت إدارة الشأن العام وفق أجندة وسياسيات تتناقض مع القرارات التي اتخذتها الهيئة. وماتزال القيادة الرسمية تتهرب من دعوة الهيئة للاجتماع من زاوية هروبها من الاستحقاقات التي يملها وضع قرارات الهيئة والحوارات الشاملة موضع التنفيذ وفي المقدمة مغادرة سياسة الهيمنة والتفرد.

ومنذ ذلك الوقت، تردت الأوضاع الفلسطينية وتفاقم الانقسام مع وصوله أخطر ذراه صيف العام 2007. وعلى الرغم من الحوارات الفلسطينية الشاملة التي دارت وقراراتها المتقدمة باتجاه إنهائه واستعادة الوحدة، إلا أن استمرار السياسات الفئوية من قبل طرفي الانقسام حال دون تحقيق هذا الهدف الوطني الكبير. وتفاقمت في الوقت نفسه الأزمة الفلسطينية المركبة مع تلازم سياستين رسميتين، الأولى تمثلت في مواصلة الرهان على التسوية السياسية وفق أوسلو والالتصاق بخيار المفاوضات العبثية في ظل الانحياز الأميركي وتغول الاستيطان والتهويد. والثانية تعطيل قرارات الأجماع الوطني وأبرزها قرارات المجلس الوطني في دورته الأخيرة(2018) والتي وضعت بوصلة وطنية للخروج من قيود أوسلو الأمنية والسياسية والاقتصادية وجددت الدعوة إلى تدويل القضية والحقوق وفق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، بما يكفل تجسيد الحقوق الوطنية في العودة والاستقلال الناجز.

ولهذا السبب الجوهري، يبدأ حل الأزمة الفلسطينية المركبة عند قيام «هيئة تفعيل م.ت.ف» بدورها، وهذا يتطلب دعوتها للاجتماع الفوري من أجل وضع قرارات الاجماع الوطني وفي المقدمة قرارات المجلس الوطني في دورته الأخيرة، قيد التنفيذ.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف