للحقيقة، للمرة الأولى منذ ثلاثة وثلاثين عاماً، قلمي عاجز عن الكتابة في ذكرى رحيل الشهيد «خالد نزال».
قلمي جاف غير قادر على الفضفضة. وكيف لا يعجز وقد فقد قدرته على دعم قضيته وأصبح ضعيفاً ومهزوماً، خَجِلاً من الشكوى للورق سأماً من حالي..
بإرادوية مُفْرطة؛ سأرغم قلمي الذي تحرك وانطلق من أجلك ومن أجل عوالمك، استمرار تسجيله الشهادة الثالثة والثلاثين مهما بدت مبتورة وقاتمة، إيفاءً بالوعْد المقطوع على تسييله ما حُييت إحياءً لذكراك، وتسخيره لتسجيل سَردية حُرّة لمشاعر الفقْد حتى آخر قطرة حِبْر، رغم يقيني أنه كلما زاد رصيد مقالاتي أخسر من رصيد عمري.
سأكتب حتى لو كانت الكلمات مخلخلة وبائسة وفاقدة دَسَم الخطابة الإنشائية.
سأكتب حتى لو كان كل ما راودني من كلمات سخيفا وسطحيا، فاقداً للمنطق والفكر الجدلي ولباقة الموت، سأسجل وقائع الفقد في جميع الأحوال: التضارب في تعريف المصطلح، الاختلاف في تراث وتقاليد استنهاض المعنويات الخائرة، التناقض في إحياء مراسم وداع الشهداء بعد انفضاض المآتم..
وفي التفاصيل، منذ الانشطار الأفقي والعامودي للوطن، بدأ المقال السنوي يتحول إلى صخرة أحملها إلى ما لا نهاية، يأتي ليزيد أحمالاً فوق أحمالي، بينما أستمر في إقناع نفسي: أن هذه أفضل من تلك، الكتابة المشوشة أفضل من الانقطاع عنها، وأن القضية اختارتك واختارتني ليستقر الحال بنا على ورقة وقلم، فلا مناص من استكمال وثيقة الفقد، وأن مسؤوليتي تجاهكم، من استشهدوا لوجه فلسطين تقتضي ترتيب أفكاري على نبض مشاعري، وشحذ قلمي ودفع الكهرباء الساكنة إلى مقدمته.
في التفاصيل، لَواقطي لم تكن عوناً لي في العثور على ثيْمة المقال السنوي والبناء عليها، واستكمال تسجيل شهادة جديدة من نصوص الفَقْد. لم أعثر على أي رأس خيط، سوى عدد من الأفكار الفضائحية محليّاً لا يمكن إشاحة النظر عنها، متجاورة مع إشارات جهنمية لبشاعات وفظاعات وخيانات وآثام وانحرافات عربية خالصة، من الذين ينظموا المزادات السرية والعلنية، وممن أصبحوا لا يرون من قضيتنا الوطنية سوى أنها مظهر من مظاهر ضغوط الحياة، هذا في السياق العام.
وفي إشارات أخرى للواقط الحزيرانية، الشعور بفراغ عظيم وإخفاق أعظم في لملمة شتات أفكار، ولو بكلمات مقتضبة تُثري جدارية الفقْد الثالثة والثلاثين، في السياق الخاص. فالعام في حالتي لا تنفصم عُراه عن الخاص، صفحتان متقابلتان ومتجاورتان، سياقان متلاصقان في ذكراك يا «خالد»، دائما كانوا كذلك وسيبقون ما حييت، كتوأمين سياميين.
لا غضاضة، أن أسجل في الذكرى الثالثة والثلاثين للغياب فشلي الذريع في تدبيج شهادة جديدة عن الفقد في السياقين الخاص والعام. لأن الشهيد تركني أستكمل قصتنا، على طريقتي، وفق رغباتي وخيالي وشغفي في التمارين الذهنية وكسر الأنماط. كلٌ يرسمُ نهاية حكايته كما يشاء، وسر قصتنا أن خلفيتها مرسومة بالرصاص.
فلا يمكن المرور على المناسبة دون نثر بعض الكلمات في السماء، هكذا اعتدت وعودت.
إنْ لم أفعل: ستحاسبني اللغة بعد أن تحوم وتجلس فوق أكتافي، وتملأ كياني الرثّ مشاعر الندم وتأنيب الضمير.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف