اقتربت ساعة الحسم في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وبدأ جون كيري، وزير الخارجية الأميركي يتأهب للكشف عن ورقته التي سيقدمها للطرفين كإطار اتفاق لمواصلة المفاوضات، بعد انتهاء فترة الأشهر التسعة، والدخول في تفاصيل قضايا الحل الدائم.
استطاع كيري، في جولاته الأخيرة، أن ينسف الفكرة القائلة بأن الأشهر التسعة كانت مخصصة من أجل الوصول إلى حل لقضايا الوضع الدائم، واستطاع كذلك أن يجعل من فكرة تمديد فترة المفاوضات أمراً طبيعياً لا يثير الاستغراب، وأن ينحي جانباً القرار الفلسطيني بالذهاب إلى مؤسسات الأمم المتحدة ووكالاتها، في حال فشلت مفاوضات الأشهر التسعة في حل القضايا التفاوضية بعناوينها الكبرى المعروفة، وهكذا حوّل كيري فترة الأشهر التسعة من مرحلة تفاوضية نهائية إلى مرحلة تفاوضية تليها مرحلة جديدة، يجري الحديث عن أن مدتها لن تقل عن سنة، للاتفاق على أسس الحل، تتلوها سنوات إضافية لمناقشة تفاصيل الحل وآليات تنفيذه. وبالتالي أظهر كيري أن «مفاوضاته» وإن كانت عبثية تلتهم الوقت دون حساب، وتوفر الغطاء السياسي للاستيطان وللممارسات الاحتلالية من قتل واعتقالات وهدم منازل ومصادرة أراضي، إلا أنها لم تكن «عقيمة» فهي ولدت توافقاً مبدئياً على استئناف المفاوضات لفترة إضافية وكما يقول المراقبون، فإن كيري، بضغوطه المختلفة، وإغراءاته المتعددة لن يسمح للجانب الفلسطيني أن يفشل له جهوده وأن يصل به إلى التسليم بالفشل في حل قضايا الوضع الدائم، فضلاً عن أن الإدارة الأميركية، برئاسة أوباما، لن تسمح هي الأخرى، لنفسها بالفشل على يد الملف الفلسطيني، وهو أحد ملفات الشرق الأوسطية التي «تبرعت» لحلها مستفيدة من فرص عديدة: حالة ضعف عربية وإنشغال بملفات أخرى دفعت بالملف الفلسطيني إلى الصف الأخير؛ حالة ضعف فلسطينية في ظل أزمة سياسية واقتصادية ومالية وافتقار إلى البدائل للعملية التفاوضية تحت الرعاية الأميركية، وأخيراً وليس آخراً انقسام فلسطيني يلقي بظلال الشك حول قدرة المفاوض الفلسطيني على تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، خاصة في الجانب الأمني، في ظل «حالة التمرد» القائمة في قطاع غزة.
الجولة العاشرة، وإن شكلت في نتائجها مفاجأة للبعض، حين كشف فيها كيري عن أفكاره الخاصة بالوثيقة التي ينوي تقديمها كإطار للعملية التفاوضية في المرحلة الجديدة، بعد نيسان (أبريل) القادم؛ إلا أنها في الوقت نفسه، لم تشكل أدنى مفاجأة على الإطلاق للذين تابعوا جيداً المواقف والتصريحات الإسرائيلية، على لسان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ويأتي وزرائه، في مقدمهم موشيه يعلون وزير الحرب، وأفيغدور ليبرمان وزير الخارجية، وتسيبي ليفني وزيرة القضاء والمعنية بالملف التفاوضي. وكل ما تم الكشف عنه بعد مغادرة كيري، باعتبارها أفكاره التي عرضها على الرئيس عباس وردت بشكل واضح وصريح في مواقف الإسرائيليين، وجاءت ترجمة حرفية لهذه المواقف وتبني خالص لها.
· فقد طالب كيري الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية، وهو الموقف ذاته الذي يتمسك به نتنياهو وأكدت ليفني أنها ستقاتل في غرفة المفاوضات للحصول عليه. جاءت اقتراحات كيري لتقدم هذا الطلب على طبق من فضة، في عملية انقلاب في المفاهيم والقيم والمبادئ والحدث التاريخي، بحيث أصبح تقرير المصير من حق «الشعب اليهودي» وليس من حق الشعب الفلسطيني، وأصبح الطرف المعني بأن يتم الاعتراف بحقه في الوجود (لأنه في الأساس غير موجود) هو «الشعب الإسرائيلي»، وليس «الشعب الفلسطيني»، مع إدراك تام بما يعنيه يهودية الدولة الإسرائيلية على مستقبل قضية اللاجئين وحق العودة، وعلى مستقبل الفلسطينيين العرب في إسرائيل نفسها.
· ولا غرابة – استطراد لما سبق – أن يدعو كيري إلى حل قضية اللاجئين الفلسطينيين وفق معايير الرئيس الأسبق كلينتون، بالقول إن حق العودة بات غير قابل للتنفيذ العملي، والحل البديل هو التوطين في الدول المضيفة، أو في دول أخرى، دون المساس بسيادة هذه الدول، عبر التأكيد أن التوطين رهن بموافقتها وليس رهناً بخيارات اللاجئين أنفسهم. ولا غرابة، في السياق نفسه، أن يستعيد ليبرمان أطروحته الداعية إلى «نقل» حوالي 300 ألف فلسطيني عربي من داخل إسرائيل إلى تخوم الدولة الفلسطينية العتيدة وتحويل فكرة تبادل الأراضي إلى فكرة مزدوجة: تبادل الأراضي والسكان؛ وذلك تخفيضاً «لخطر» التزايد الديمغرافي العربي على مستقبل «الدولة اليهودية».
· أما القدس، فالاقتراح يشكل عودة إلى لعبة مثيرة للضحك، تعتبر أبو ديس، وبيت حنينا، وشعفاط، والعيساوية، والعيزرية، هي القدس العربية التي ستقام فيها عاصمة الدولة الفلسطينية، من هنا دعا كيري إلى «عدم تقسيم القدس» والحفاظ عليها موحدة (طبعاً تحت الاحتلال الإسرائيلي) عاصمة لدولتين، دون أن يوضح كيف ستكون إدارة هذه العاصمة ولمن اليد العليا في إدارتها. أساس فكرة كيري رفض الانسحاب من القدس الشرقية المحتلة والبحث عن «حلول» بديلة، تنطلق من الوقائع الاستيطانية وعمليات الأسرلة التي تنشط في القدس الشرقية المحتلة.
· وربط كيري، كما فعل وزير دفاع نتنياهو، ومعظم وزرائه بين الحدود و الأمن، وبات رسم الحدود بين الدولتين، رهناً بضمان أمن إسرائيل ما يتطلب بقاء جيشها عند نهر الأردن، وفي نقاط معينة من منطقة الغور، وعلى قمم التلال مع سيادة مطلقة على الأجواء والمياه الإقليمية الفلسطينية (دون الحق في امتلاك مطار خاص بدولة فلسطين) في السياق نفسه قدم التعريف الإسرائيلي لمفهوم الكتل الاستيطانية، بحيث يشمل المستوطنات الكبرى، والمستوطنات المتجاورة، وصيغة معينة تضم حتى البؤر الاستيطانية التي اعترف تقرير ميتشل (الشهير) أنها غير شرعية. وهو أمر يتطابق مع قول نتنياهو أن «المناطق» (أي المناطق المحتلة) هي جزء من الوطن [إسرائيل] ولن نغادرها بما في ذلك الخليل [حيث البؤرة الاستيطانية المعروفة داخل المدينة الفلسطينية العريقة] واريئيل [إحدى أهم وأكبر المستوطنات في الضفة].
· ولم يفت كيري أن يذكر الجانب الفلسطيني بأن أمن إسرائيل ومستقبلها ووجودها مسألة أميركية من الطراز الأول، لذلك ويرى، من ضمن ما يراه، أن تطبيق ما يتم الاتفاق عليه، رهن ليس بالتوقيع على الاتفاقات، بل رهن بمدى قدرة الدولة الفلسطينية التي ستقوم (على ما تبقى من الأرض الفلسطينية المحتلة) على الأداء الأمني الكفيل بضمان أمن إسرائيل. وبالتالي كلما تقدمت القدرة الأمنية للدولة الفلسطينية خطوة إلى الأمام، كلما تقدم تنفيذ الاتفاقات خطوة مشابهة، علماً أن الجانب الإسرائيلي هو من يقرر مدى تقدم الأداء الفلسطيني، أي أن الدولة الفلسطينية سوف تبقى تحت الرقابة اليومية للجانب الإسرائيلي، ولسوف تبقى رهينة امتحان إسرائيلي لن يتوقف، إلى أن تثبت أنها باتت مؤهلة لتحمل مسؤولياتها الأمنية. ترى ما هو المقياس الذي تعتمده إسرائيل لامتحان القدرة الفلسطينية. هذا السؤال مطروح وفي البال تصريحات نتنياهو الأخيرة، حول ثقافة الكراهية التي تنشرها السلطة الفلسطينية في برامجها التعليمية وسياسة التحريض التي تتبعها ضد الوجود الإسرائيلي وضرورة معالجة هذا الأمر. ولو افترضنا أن هذه واحدة من القضايا المعنية الدولة الفلسطينية بمعالجتها [أي نزع الكراهية من صدور الفلسطينيين نحو الاحتلال والجرائم الإسرائيلية وتحويل هذه الكراهية إلى ثقافة تسامح ومحبة] لتوجب الانتظار عقوداً إضافية علماً أن مصدر الكراهية هو الممارسات الكولونيالية الإسرائيلية وليست مجرد ثقافة يتبناها الإنسان الفلسطيني.
في جولته العاشرة حقق كيري سلسلة نجاحات:
1) نجح في تنحية قرارات الشرعية الدولية جانياً، إن بما يتعلق بالقدس أو الحدود، أو الاستيطان (غير الشرعي والذي استمد شرعية جديدة من فكرة الضم) أو اللاجئين أو غيرها من القضايا.
2) نجح في تكريس اقتراحاته بديلاً للمرجعية الدولية، ويدير لعبة خبيثة، تدعو إلى اعتماد هذه الاقتراحات كإطار لمفاوضات قادمة، مع حق التحفظ عليها، المهم أن تكون هذه المقترحات هي المرجعية الوحيدة للمفاوضات، وهي مصدر التحكيم عند وقوع الخلافات.
3) نجح في الدمج بين اقتراحاته وبين المواقف الإسرائيلية، وبحيث أصبحت هذه المواقف هي الأساس المقترح للمفاوضات الجديدة.
4) نجح في تجاوز فكرة الأشهر التسعة كمرحلة نهائية للمفاوضات، وفي نيل الموافقة المبدئية على تمديد العملية التفاوضية لفترة إضافية يقترح نتنياهو أن تمتد حتى كانون الثاني (يناير) 2015.
5) نجح في إدخال الحالة الفلسطينية في متاهات الحلول الأميركية والإسرائيلية في ظل إستراتيجية فلسطينية لا ترى للمفاوضات تحت الراعي الأميركي بديلاً.
6) نجح في توفير غطاء سياسي لفترة إضافية للاحتلال والاستيطان، وإعادة تقديم إسرائيل من دولة احتلال إلى شريك في عملية سلام ترعاها واشنطن.
تطور شديد الأهمية دخل على العملية السياسية. ترى إلى أي مدى سوف يمتد هذا التطور، أم أننا سنشهد قريباً تطوراً معاكساً مصدره الحالة الفلسطينية؟

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف