منذ أن بدأت تحركات النهوض العربي في تونس قبل ثلاث سنوات، ونجحت الثورة في الإطاحة بعرش زين العابدين بن علي، ثم تعاقب الحراك الجماهيري في مصر واليمن وليبيا والبحرين وسوريا، وتمكنت من التخلص من القذافي ومبارك، وتحقيق تغيير وإصلاحات بإقصاء علي عبد الله صالح، وهز أركان النظام البعثي في سوريا والدخول في صراع دموي أخذ طابع الحرب الأهلية التي لم تضع أوزارها بعد.. منذ ذلك الحين، لم تغمض عيون الطغاة وفلول الأنظمة البائدة ومؤسسات الدولة العميقة من التآمر للإجهاز على قوى الفعل في تلك الثورات، وتعطيل القوة الدافعة (Driving Force) وراء تلك التحركات الشعبية والممثلة بتيارات العمل الاسلامي، والتي يمثل "الإخوان المسلمون" أحد أهم روافدها الحركية وتنظيماتها الواسعة بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية.
لم تتوقف حملات التخويف والتشويه والتشهير والتحريض على حركة الإخوان المسلمين عند حدود دولة بعينها، بل هبَّ "تحالف الدكتاتوريات العربية" بالتواصي على دمغها بالتطرف والإرهاب، والتساوق مع الحملة العالمية لاستهداف الإسلام بذريعة الحرب على الإرهاب، والتي سبق أن بدأتها الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش الابن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م.
في الحقيقة، أن معظم الأنظمة الدكتاتورية بالمنطقة لا تستطيع الدفاع عن ديمقراطياتها المزعومة، كونها أنظمة بوليسية مستبدة، وبشهادات المؤسسات الحقوقية الدولية، ولذلك تبحث لها عن ذرائع تغطي سوءات مظالمها، وفساد إداراتها، وفشل حكوماتها، بزعم محاربتها للإرهاب والعمل على تفكيك شبكاته المحلية والإقليمية، وذلك بانتهاج سياسات الملاحقة والاعتقال لقياداته وكوادره وتجفيف منابعه المالية.
لذا، تلجأ تلك الدول والحكومات باللعب على وتر "التطرف والإرهاب"؛ لأنه يحظى بقبول كبير في الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد كانت معظم أنظمة الحكم العربية تتذرع بغياب الممارسة الديمقراطية ببلدانها، وبتعطيلها للانتخابات أو قيامها بالتلاعب في نتائجها، كون الإسلاميين هم أقوى المرشحين للحكم، وأن التخفيف من قبضتها الأمنية معناه افساح المجال والتمكين لهؤلاء بالتوسع والانتشار. للأسف، لم يحترم الغرب شعاراته بتعزيز نشر الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وغضَّ الطرف عن الممارسات القمعية لتلك الأنظمة الدكتاتورية.
ومع بداية الربيع العربي أواخر عام 2010 ومطلع 2011م، التزم الغرب الصمت، انتظاراً لما سوف تسفر عنه تحركات الاحتجاج وموجات الغضب في الشارع العربي.. لا شك أن حالة التغيير لبعض تلك البلدان وصعود الإسلاميين المعتدلين كالإخوان المسلمين لم يشكل حالة خوف أو قلق للغرب، بل تم النظر إليه على أنه "مسار آمن" لتخفيف حالة الاحتقان الشعبي، وفرصة لفك التحالف مع تلك الأنظمة الدكتاتورية التي أدت لارتفاع منسوب حالات العداء والكراهية للدول الغربية، وزادت من غضب الشارع واحتقانه ضد كل ما هو أوروبي أو أمريكي، وشجَّعت على استهداف مصالحها الاستراتيجية بالمنطقة.
ومن الجدير ذكره، أن الغرب ربما كان متسامحاً بل راغباً في بعض تلك التحولات، ولكن في لحظة ما بدأ يستشعر الخطر، حيث باتت بعض الأنظمة الملكية والخليجية مرشحة هي الأخرى لأن تداهمها الثورة ومطالب التغيير والإصلاح والتجديد.
كانت مؤشرات فوز التيارات الإسلامية؛ وخاصة حركة الإخوان المسلمين، بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية في معظم دول الربيع العربي، قد دقت ناقوس الخطر وأوجدت تحالفاً ضاغطاً لوقف تمددات الحراك الشعبي، والعمل على إفشال ما تحقق له من إنجازات.
لقد تعمد هذا التحالف على خلط ثلاث أوراق ذات مضامين دينية وسياسية متفاعلة - وإن كانت بدرجات متفاوتة - في الحراك الشعبي، وذلك بهدف التعمية على مخططاته وإغراء الغرب بالتزام الصمت، وتوخي السكوت عن التجاوزات اللاديمقراطية والقمعية التي ستلجأ إليها، وهذه الأوراق هي: أولاً؛ استنزاف عناصر القاعدة وحزب الله في المواجهات التي تدور رحاها في سوريا. ثانياً؛ تشويه صورة إيران من خلال ابراز دعمها للرئيس بشار الأسد ونظامه القمعي. ثالثاً؛ إلباس حركة الإخوان المسلمين ثوب الشيطان (Demonization) من خلال اتهامها بالتطرف والإرهاب.!!
صحيحٌ أن الغرب له مصلحة في استنزاف طاقات الإسلاميين المتطرفين، وخاصة أولئك الذين يتهددون مصالحه بالمنطقة من السلفية الجهادية؛ كتنظيم جبهة النُصرة، والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، أو من يعتبرهم خلايا نائمة (Sleeping Cells) من أنصار تنظيم القاعدة؛ القادمين للقتال في سوريا من بعض حواضره الأوروبية.
ولكن – وهذه حقيقة يجب أن تقال - كان للغرب موقف آخر تجاه الإسلاميين المعتدلين (Mainstream Islam)؛ وعلى رأسهم حركة الإخوان المسلمين، وما تمثله من حالة إسلامية تحاول انتهاج أسلوب التوازن والوسطية، ولا تؤمن بالعنف والتهميش، وتقبل بالعملية الديمقراطية وتحترم التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة.. ولذلك، أخذت معظم الدول الغربية موقفاً غير داعم لما حدث في مصر في الثالث من يوليو 2013م، حيث تمَّ عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي واقصاء الإخوان المسلمين عن ساحة الحكم والسياسة.
جاء موقف المملكة العربية السعودية باعتبار الإخوان المسلمين حركة إرهابية صادماً لكل الإسلاميين بالمنطقة، حيث كان الإخوان يجمعهم مع السعوديين تفاهمات وتحالف غير مكتوب، يعطي للمملكة صدارة المشهد الإسلامي؛ سياسياً ودعوياً، مقابل التغاضي عن كافة أشكال الدعم الذي يقدمه أهل الخير ورجال الأعمال في الخليج عموماً وفي السعودية على وجه الخصوص للعمل الإسلامي، والذي تديره حركة الإخوان المسلمين بمؤسساتها وجمعياتها الخيرية المنتشرة في معظم دول المنطقة وحول العالم.
وأشهد – وما شهدنا إلا بما علمنا - أنه خلال فترة وجودنا في أمريكيا للدراسة والعمل من (1982 – 2004م)؛ أي في حقبة الثمانينيات والتسعينيات ومطلع الألفية الثالثة، أن المال الذي جلبه الطلبة الخليجيون لبناء المؤسسات الإسلامية كان له التأثير الكبير في انتشار الإسلام في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وأتذكر كم كان كرم الدعم والعطاء الذي قدمته الهيئات والروابط الإسلامية ورجال أعمال من دول خليجية مثل: السعودية والكويت والإمارات وقطر، كتبرعات ومساهمات وزكوات لمشاريع بناء مئات المساجد والمراكز الإسلامية، والتي انتشرت في أغلب الولايات والمدن الأمريكية.
لقد كانت السعودية والإمارات والكويت من أهم الدول التي احتضنت العمل الإسلامي، والذي كانت عناوينه إخوانية بامتياز. فما الذي تغير حتى تفتح بعض هذه الدول الخليجية الحرب على الإسلاميين، وخاصة التيار الإخواني منهم؟
سؤال ستجيبنا عنه ما قد نشهده من تحولات في خريطة التحالفات العربية والإسلامية في الشهور وربما السنين القادمة.
إن البعض يرى بأن هذا الموقف الذي اتخذته بعض دول الخليج من الإسلاميين مرجعه هو التوقعات بأن هذا الحراك الشعبي لن تقتصر رياح أمواجه العاتية على شواطئ ومنتجعات أنظمة الحكم الجمهورية المستبدة، بل ستصل امتداداتها إلى أبعد من ذلك لتهدد أيضاً معظم أنظمة الحكم الملكية، حيث كانت تطلعات الشعوب العربية للتغيير والإصلاح قد بلغت ذروتها، ووجد الإسلاميون الذين اكتووا بظلم تلك الأنظمة أن الفرصة مواتية فامتطوا – بجسارة - صهوة جيادها، وصاروا أهم القوى الفاعلة فيها؛ باعتبارهم الأكثر تنظيماً، والأوسع تجربة، والأقدر على توفير الإمكانيات المالية واللوجستية لحركة الاحتجاج والثورة.
من هنا؛ جاءت القطيعة وبدأت حملة "الإخوانفوبيا"، لكسر شوكة الإخوان وإضعاف موجات الاحتجاج المطالبة بالتغيير والإصلاح والتغيير بالمنطقة.
الإخوان في دائرة الاستهداف والاتهام
لقد انتاب العديد من التيارات والأحزاب الليبرالية واليسارية والقومية الكثير من القلق والمخاوف من الإسلاميين، وذلك بسبب سرعة اندفاعهم لدخول معترك الحياة السياسة، وبخاصة بعد الثورة المصرية؛ ثورة الخامس والعشرين من يناير، وما نتج عنها من مساحات واسعة للحريات كان الإسلاميون محرومين منها من قبل، مما أعطاهم دافعاً لخوض غمار العمل السياسي.. ومع ما حققه الإسلاميون عام 2012م من اكتساح لمقاعد البرلمان المصري الأول بعد الثورة، ثم فوز د. محمد مرسي بالانتخابات كأول رئيس مصري من جماعة إسلامية، بل من كبرى الجماعات الإسلامية المعاصرة؛ جماعة الإخوان المسلمين، فقد بدأت عمليات التآمر والتحريض والتشويه والتشهير لكل ما هو إسلامي، بهدف وقف المدِّ الإسلامي وكسر شوكة الإسلاميين، قبل أن يُكتب لهم النجاح والتمكين في كافة مرافق الدولة.. وقد تولى كبر هذه الحملة الإعلام المصري المملوك لرجال المال والأعمال، وأيضاً بعض الفضائيات التي يديرها رأس المال الخليجي وعلى رأسها تلفزيون "العربية".. وأخيراً؛ إدراج وزارة الداخلية للمملكة العربية السعودية اسم جماعة الإخوان المسلمين في قائمة ما أسمته "التجمعات الإرهابية".!! وقد علَّقت الجماعة على ذلك بالقول: إننا فوجئنا بذلك الموقف، وأنه "ليؤلمنا أن يصدر هذا التصرف عن المملكة التي هي أول من خَبَرَ الجماعة، ومواقفها الناصعة في الحفاظ على مصالح الشعوب ووحدة الدول، والمساهمة الفعَّالة في بناء المجتمعات والأوطان، ونشر الفكر الإسلامي الصحيح". وقد أوضحت الجماعة في بيانها - كذلك - أن مبدئها الثابت هو عدم التدخل في شؤون الدول، مشيرة إلى أن "الموقف الجديد من جانب المملكة يتناقض تماماً مع مسار تاريخ علاقتها مع الجماعة منذ عهد الملك المؤسس وحتى الآن".
لقد شكل هذا الموقف الأخير للملكة من الجماعة حالة من الصدمة والذهول (Shock & Awe)، والتي ستكون تداعياتها كبيرة، من حيث مكانة وقدرة المملكة العربية السعودية على الاستمرار في قيادتها للعالم السُني، والذي كان لحركة الإخوان المسلمين الفضل في توطينه في ذهنية كوادرها وتسويقه عالمياً عبر شبكاتها الحركية الممتدة في كافة أرجاء المعمورة.
الإخوان المسلمون: بين القبول والرفض
في الحقيقة أن هناك حالة تستوجب المراجعة، ومن حق الشارع أن يكون له حق الحكم على جماعة الإخوان المسلمين؛ ما لهم وما عليهم، كما أن من حق الإخوان أن يدافعوا عن مشروعهم الإسلامي، وأن يقوموا بتقديم "جردة حساب" لتاريخهم؛ منذ تأسست الجماعة في عشرينيات القرن الماضي على يد الإمام حسن البنا (رحمه الله)، ثم انتشارها الواسع في كل بلدان منطقة الشرق الأوسط وبين التجمعات المسلمة في الدول الغربية، حيث يقود شباب هذه الحركة – منذ نشأتها - أغلب نشاطات النُصرة لفلسطين وباقي قضايا أمتهم العربية والإسلامية.
لا شك أن هناك حالة من الاستهداف لحركة الإخوان المسلمين وفكر الوسطية والاعتدال الذي تمثله، وتقوم على ذلك – للأسف - جهات رسمية خليجية، ومحطات إعلامية مدعومة من رجال المال والأعمال، بهدف قطع الطريق على ما تبقى من فرص التغيير والإصلاح والتجديد بالمنطقة.

الآخر: حسابات وأسئلة مشروعة
وتأسيساً على ما سبق من حملات إعلامية طالت الإسلاميين؛ سواء كانت صحيحة أم خاطئة، فقد بدأت بسبب ذلك تتبادر إلى أذهان الشارع مخاوف من طروحاتهم ورؤاهم الفكرية.. في البداية، كانت هناك تساؤلات وعلامات استفهام، ولكنها مع هذه الحملات الإعلامية الشرسة تطورت بسرعة إلى مخاوف وتوجسات.
ففي سياق الحراك السياسي، والتدافع الذي شهدته مرحلة العمل - بعد نجاح تلك الثورات - على صياغة شكل الدولة والدستور وعمل البرلمان والقضاء، كانت تطرح الكثير من التساؤلات التي تتطلب إجابات شافية من الإسلاميين عليها.
لقد حاول الشيخ عصام تليمة؛ عضو اتحاد علماء المسلمين العالمي، في كتابه الرائع (الخوف من حُكم الإسلاميين؛ عن الدولة المدنية والحريات والمواطنة وتطبيق الشريعة) والذي تمَّ نشره عام 2013م، تناول كل تلك المسائل وإيضاح الموقف الإسلامي منها، معتبراً أن الواجب يفرض على الإسلاميين تقديم كل ما يقطع دابر الشك، ويرفع ذلك الخوف من ذلك المستقبل الآخذ بالتشكل، والذي يحدد معالمه الإسلاميون بالدرجة الأولى.
لقد حاول الشيخ تليمة طرح العديد من الأسئلة التي تتداولها النخب الفكرية التي تمثل مواقف الآخر، وتقديم إجابات مستفيضة تمنح الشارع ما يبعث على الاطمئنان لما يحمله الإخوان من فهم وسطي للإسلام، وما تعبر عنه المدرسة التي يمثلونها من مرونة في الرؤى والمواقف، والتي يمكن أن تنتظم واقع الحكم والسياسة الذى قد وصل البعض إليه، وهي تتمحور حول الأسئلة التالية: الموقف من الدولة الدينية، ودور المشايخ – بشكل عام - في الدولة والقرار؟ هل لهم سلطة كهنوتية دينية، تلغي معها أي سلطة أخرى؟ وما الموقف من استغلال المنابر الدينية للترويج لفصيل سياسي دون غيره؟ وما الموقف من تَسيس الدعاة والمشايخ، وكيف يكون تناولهم للسياسة، وترجيح فصيل على آخر؟ وعن الدولة المدنية التي مرجعها الإسلام، والتي يطرحها البعض في الساحة الإسلامية - اليوم - كمخرج لحرج الدولة الدينية: أي إسلام ستعتمد؛ إسلام السعودية أم إسلام باكستان؟ إسلام طالبان، أم تركيا وإيران، أم ماذا؟
أما على مستوى الحريات؛ فما موقف الإسلاميين من الحريات العامة، كالحرية السياسية، وهل يقبل الإسلاميون بحرية الأحزاب، ولو كان الحزب المكون غير إسلامي أو غير مسلم أو حزباً صاحب فكرة مناهضة للإسلام والإسلاميين كحزب علماني أو شيوعي مثلا؟ وما الموقف من حرية الاعتقاد، وحرية الانتقال من دين لآخر، أو بلا ديانة؟ وحرية نشر الآراء الفكرية وإن خالفت ثوابت الإسلاميين الدينية؟ وما الموقف من حرية الإبداع الفكري والأدبي والفني؟ وهل سيكون هناك حَجْرٌ على الإبداع، أو وضع حدود له تحد من قدراته، وتطلعاته، وأفاقه؟ وما الموقف من حرية الفن والفكر والإبداع؟ هل سيسعى الإسلاميون إلى إنشاء هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تشق عن قلوب المؤلفين، وتتبع كتاباتهم بهدف مصادرتها والنيل منها؟ وما موقف الإسلاميين من مصادرة الفكر والرأي والإبداع.؟
وتناول الشيخ تليمة أيضاً تقديم توضيحات للرد على تساؤلات تختص بموضوع تطبيق الشريعة فيما يخص الحدود والموقف من تطبيقها؛ كرجم الزاني المتزوج بالحجارة حتى الموت؟ وقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر؟ وحدٍّ كحدِّ الردة وهو القتل؛ ما الموقف منه، وما مدى تعارض ذلك مع مبدأ حرية الاعتقاد، وهل تطبق هذه الحدود والناس غير مؤهلين ولا مستعدين لها؟ هل تقبل التأخير، أم هي حدود فورية التطبيق؛ لا نقاش فيها ولا تأجيل؟ وهل يُقبل أن يُجرى استفتاء عام بين الناس بين قبول الحدود أو تطبيق الشريعة وعدم قبوله، أم هو أمر مفروض على الناس لا مناص لهم منه؟
وهناك - إضافة لكل ما سبق - تساؤلات تتعلق بوضعية الآخر الديني ووجهات نظر الإسلاميين في ذلك؛ ما هو الموقف من غير المسلمين بشكل عام، والمسيحيين على وجه الخصوص؟ وهذا يسوقنا لطرح العديد من التساؤلات التي تحتاج إلى إجابات واضحة ينبني عليها عمل عند التطبيق والممارسة السياسية، منها على سبيل المثال: ما رؤية الإسلاميين وموقفهم من "مبدأ المواطنة"؛ القائم على المساواة التامة بين المواطنين - مسلمين وغير مسلمين - في جميع الحقوق والواجبات؟ وهل يجوز أن يكون المواطن غير المسلم نائباً أو وزيراً أو قاضياً أو مسؤولاً في الجيش؟ أو حتى رئيساً للوزراء أو مرشحاً لرئاسة الدولة؟ وما هو الموقف لو فاز بالانتخاب مواطن غير مسلم، وصار رئيساً لدولة أغلبيتها مسلمة؟ ولماذا يُجبر غير المسلم على أن يحكمه قانون ديني غير قانون دينه، وذلك بالنص على المادة الثانية من الدستور: بأن دين الدولة الرسمي الإسلام، وأن مبادئ الشريعة مصدر رئيسي للتشريع؟ وما مدى حريته في التمتع بما هو محرَّم في الإسلام، بينما لا يُحرّمه دينه؛ كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، وما تقتنع به نساؤهم من حرية الزي، وعدم ارتداء الحجاب؟
هذه نماذج من تساؤلات مشروعة يطرحها البعض عند النقاش والحوار، وتظل – للأسف - غائمة أو مشوشة في أذهان الكثيرين من الناس عند تصور وصول الإسلاميين إلى الحكم أو مشاركتهم فيه، وكذلك عند دخولهم على خط العمل السياسي بكافة صوره وألوانه.
إن هناك جملة من المبادئ المطلوب تأملها وتبنيها – حسب رأي الشيخ تليمة - قبل الإجابة عن كل ما تقدم من الاسئلة، والولوج في مثل هذ الحوار الفكري، وهي:
أولاً) إن من حق كل متخوف أو متوجس من تيار ما، أن يبادر بالسؤال والاستفسار، فهذا حق مشروع، على أن يكون التساؤل مشروعاً من الطرفين، متحلياً بأدب الخلاف الفكري، وليس اتهاماً وتجريحاً، ونيلاً من هذا الطرف لحساب طرف آخر.
ثانياً) لن ترشد تجربة حكم بين يوم وليلة، فنحن على مشارف تجربة سياسية جديدة، كان النظام السياسي السابق - الفاسد والمستبد - عائقاً عن خوضها، وكان متحكماً ومتنفذاً وحده في العملية السياسية، فنحن كلنا في تجربة سياسة لم تَعْدُ بعد مرحلة المراهقة السياسية نظرياً وتطبيقاً.
ثالثاً) النقاش والحوار هو المدخل الأفضل لحل المشكلات، وليس بأساليب التخوين والتفزيع، وعلى الجميع أن يتسع صدره للآخر وألا يضيق بما يطرحه من تساؤلات ونقد.
رابعاً) نحن جميعاً أبناء وطن واحد، فلا مزايدة على حب فصيل للوطن أكثر من الآخر، ولن يستطيع فصيل مهما كانت قوته وحجمه أن ينهض بحمل عبء الوطن وحده، مهما خلصت النيات، وصحَّت العزائم لديه، كما أنه ليس من الوطنية وحب الوطن أن يعمل فصيل أو بعض فصائل لرفعة الوطن، بينما يُشغل أخرون بتعويقه أو التشويش عليه؛ وهذا لا يجري – بالطبع - من باب النقد البنَّاء، ولكن من باب الخوف من نجاحه والسعي لانتقاص كل إنجاز يحققه والتهوين منه، بينما لو قام هو ببعض ما قام به لملاْ الدنيا طبلاً وزمراً، وأقام الدنيا ولم يقُعدها.!!
خامساً) إن علينا جميعاً الإقرار بأننا كنا في حالة سياسية واجتماعية وثقافية لم تكن صحيّة بالمرة، وكنا في قارب واحد كاد أن يغرق من كثرة فساد نظامه، وقد أسهمنا جميعاً في انتشال القارب من هذا الطوفان المفسد.. إن المطلوب منا - الآن - أن نطوي صفحة الماضي والبدء بفتح صفحة جديدة، حيث يطرح كلٌّ منا فكرته ومشروعه بدون توجس وارتياب من الآخر، والحكم في النهاية سيكون لصندوق الانتخاب (Ballot Box)، وليتقدم الجميع للمنافسة الشريفة في حمل الأمانة والمسؤولية .
سادساً) العمل على تبنى سياسية البناء الجاد والفعال لا الجدل العقيم، فنقاشنا يجب أن يكون نقاشاً يُبنى عليه عمل، وليس الهدف منه مجرد التشويش أو المماطلة السياسية، وإثارة الغبش ونثر الغبار على الأطراف الأخرى، بما يشبه أساليب المناورة لا المحاورة.
سابعاً) بالحرية والديمقراطية والشفافية تتضح الأمور وتنضج التجارب، فالحرية هي تيار جارف؛ إما أن يتعلمها الناس ويمارسونها ويسمحون بها، وأما أن يجرفهم تيارها إلى مزبلة التاريخ، وكل إنسان مُخَيّر في اختياره، ولا يلومنَّ أحداً على نتائج اختياره.
هل تنجح الأنظمة الديكتاتورية في حملتها على الإسلاميين؟
إن المنطقة العربية تمر بحالة من "التوازن القلق" وهي أبعد ما تكون عن الأمن والاستقرار، فالتحولات فيها - سياسياً ومجتمعياً - ما تزال في أولى مراحلها، وأن الذي سوف يحكمها في الغد القريب هو ما سوف تؤول إليه الأوضاع المعيشية وأشكال التحالفات في بعض بلدانها؛ فمثلاً: هل ستهدأ الأمور السياسية في مصر بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة، أم أن التوترات ستظل قائمة فيها؟ وهل ينجح النظام الجديد في اتخاذ خطوات لتخفيف الاحتقان ونزع فتيل الأزمة مع الإخوان أو يعمل على تعظيم القطيعة معهم؟ هل تتمكن السعودية من الاستمرار بسياستها المعادية للإخوان المسلمين وضبط الحالة الإسلامية المتعاطفة معهم داخل المملكة وخارجها، أم أن باب الصراع مع الأسرة الحاكمة سيُفتح على مصراعيه؟ وكذلك الحال مع دولة الإمارات العربية المتحدة التي جعلت من سياساتها العدائية للإسلاميين رأس حربة في معركة المواجهة معهم؟
إن تصرفات المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات في افتعال حالة عداء مع حركة الإخوان المسلمين تأتي ضمن سياقات غير مفهومة وفي اتجاهات مغايرة لحركة التاريخ، فالسعودية بخطوتها تلك سوف تفقد مكانتها القيادية في العالم الإسلامي، وستعطي للتيارات الإسلامية داخلها الذريعة للتمرد على حكم آل سعود، أما دولة الإمارات التي كانت تتمتع باحترام كبير بين تيارات الإسلام السياسي ولا تحمل شعوب المنطقة إلا كل التقدير للشيخ زايد بن سلطان (رحمه الله)؛ مؤسس الدولة، والذى طالت عطاءاته الخيرة ومواقفه الكريمة ودعمه للكثير من المشاريع الإسلامية، حيث ترك له في كل بلد عربي "بصمة خير وأثر". السؤال الذي يدور في أذهان الإسلاميين من أهل تلك البلاد وغيرهم من نشطاء الحركة الإسلامية في العديد من الدول العربية، لماذا هذا العداء المفتعل للإخوان؟ ومن هي الجهة التي سوف تستفيد من وراء إقصائهم أو تهميش حضورهم في مشهد الحكم والسياسة؟!!
ويبقى السؤال: هل تنجح تلك الحملات الإعلامية ومحاولات الكيد التي تمارسها بعض الرسميات العربية في تغييب الإخوان المسلمين عن مسرح العمل السياسي، وهل ستتمكن من شل قدرات فعل الشارع الثوري الذي يحظى بكامل الدعم لهم؟
الحقيقة أن الإجابة معلقة على مدى النجاح أو الفشل لتجربتين أو نموذجين أحدهما عربي والآخر إسلامي؛ وهما: تونس وتركيا، حيث إن نجاحهما معقود عليه فرصة عودة الربيع العربي بقوة مرة أخرى للمنطقة؛ فإذا تمكن حزب النهضة (الإسلامي) في تونس من الحفاظ على مكاسبه في الانتخابات القادمة، والدخول في شراكة سياسية مع اليسار والليبراليين وقيادة تونس إلى برِّ السلامة والأمان والاستقرار والازدهار، فهذا سيكون مؤشراً بأن الإسلاميين ما زالوا بخير، ويمكن استمرار المراهنة عليهم من أجل تحقيق العدالة والتنمية والحكم الرشيد، وإذا تراجعت حظوظهم فإن هذا معناه مرحلة "بيات شتوي" وشرنقة للإسلاميين قد تطول لياليها. أما تركيا أردوغان، فإن المؤشرات ما تزال مطمئنة، ولكن الحفاظ على نفس المستوى من الأصوات والتي بلغت حوالي 50% عام 2011م قد تشهد بعض التراجع بسبب الخلاف القائم - الآن - مع جماعة فتح الله قولان، والذي سيكون له بعض التأثيرات السلبية على حزب العدالة والتنمية الحاكم.
من هنا يمكننا الإشارة بأن المدى المنظور قد يحمل في طياته بعض الأخبار السيئة، حيث سينجح تحالف الدكتاتوريات في توظيف "فزَّاعة الإسلاميين"، لإقصاء خصومه وتهميش دورهم في مشهد السياسة والحكم، ولكن عثرات الأنظمة المستبدة وفساد إدارتها لشئون الحكم، وتعاظم أشكال المظالم وغياب العدل فيها، سيظل هو واقع المرجل الذي يتهددها غليانه بالانفجار، وسيظل الإسلاميون هم أحد أهم المرشحين لقيادة دول المنطقة، وطوق النجاة لاستنقاذها من الغرق.
ولكن على الإسلاميين في المشرق إجراء الكثير من المراجعات، والابتعاد عن لغة الحناجر وقسوة المواقف تجاه الآخر، وأن يكونوا كالأم الحانية، وأن يكون شعارهم "وقولوا للناس حسنا" قولاً وعملاً، وأن يكون فكرهم باتجاه الحكم قائماً على مبدأ الشراكة السياسية والتوافق الوطني، والتسليم بالتداول السلمي للسلطة، ودعم العملية الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، فالشعوب لم تعد تطيق حكم الحزب الواحد أو الجماعة الواحدة، بل هي تتطلع للحكم الرشيد الذي يتحقق معه سحر الواقع: "أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"، ومحاولة البعض التغطية على حالات الإخفاق والاحباط بترديد مقولات تدغدغ عواطف الجماهير وتُلطف أجواء الإسلاميين، مثل: "حركة ربانية" و"قيادة ربانية" و"حكومة ربانية".
وفي الختام، أجدني مصطفاً إلى جانب الأستاذ طارق فوزي؛ الخبير في شئون الحركة الإسلامية، حيث أشار إلى أن الإخوان المسلمين مطالبون بتوضيح موقفهم وكشف ما علق بهم من شبهات واتهامات، وممارسة النقد الذاتي لتجاربهم، وتحمل المسئولية تجاد. أحمد يوسفه أخطائهم، وأن يؤكدوا للجميع أنهم ليسوا ملائكة، وأنهم لا يحتكرون الحق، وأنهم يحترمون الاختلاف والتعددية ويقدمون مصالح الأمة على المصالح الشخصية والفئوية، وأنهم يقدمون رؤية نهضوية متكاملة يخرجون بها من إطار الشعارات إلى البرامج التفصيلية الجادة".
إن على كاهل الإسلاميين اليوم تقع مسئولية الإثبات - بالدليل والبرهان - أن ما يقوله خصومهم عنهم ليس أكثر من "فزَّاعة" لتخويف الناس منهم، وإفراغ ثقلهم وإمكانيات حضورهم في مشهد الحكم والسياسة.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف