فيما يسعى «الناتو» إلى التوسع وضم ما تبقى من دول أوروبا الشرقية، ترى موسكو أن هذا التوسع إنما يهدف في المقام الأول إلى تطويقها وحصارها والإضرار بأمنها القومي
مع استعداد العواصم الغربية لفرض مزيد من العقوبات على روسيا، اتهم رئيس الوزراء الأوكراني آرسيني ياتسينيوك الطيران الحربي الروسي بـ «انتهاك» المجال الجوي لبلاده (26/4)، وهو ما أكدته واشنطن، في حين وصفت وزارة الدفاع الروسية هذه الاتهامات بأنها مجرد «شائعات وافتراضات».
وتزامن هذا التطور مع نشر مئات من جنود المارينز الأميركيين في بولندا ودول البلطيق؛ ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا، بهدف طمأنة حلفاء واشنطن في شرق أوروبا بأنها مع الحلف الأطلسي (ناتو) ملتزمة توفير الدعم لتلك الدول فيما إذا تعرضت لـ«عدوان روسي» مفترض.
قلق وتوتر
يذكر أن دول البلطيق الثلاث أعضاء في حلف الناتو منذ 2004، لكن لم يكن لديها من قبل وجود مستمر من القوات الأجنبية على أراضيها، وذلك بقصد تجنب إغضاب موسكو. وهي تقول الآن إنها تشعر بقلق متزايد على أمنها واستقرارها على خلفية مضاعفات الأزمة الأوكرانية، خصوصاً أنه تُوجد بها أقليات ناطقة بالروسية.
كما جاء هذا التطور غداة بدء «المرحلة الثانية» من عملية عسكرية تقوم بها كييف في شرق البلاد، وهو ما اعتبرته موسكو خرقاً لاتفاق جنيف الذي وقع أخيراً، فيما أعلنت السلطات الأوكرانية (25/4)، عزمها التصدي لأي «غزو» تنفذه روسيا لأقاليم أوكرانيا الشرقية الانفصالية. واعتبر رئيس الوزراء الأوكراني أن الهدف من الانتهاكات الروسية لأجواء بلاده هو « دفع أوكرانيا إلى خوض حرب»، وذهب إلى حد اتهام روسيا بأنها تريد احتلال أوكرانيا «عسكرياً وسياسياً»، وبأنها تعمل من خلال ذلك على «إشعال حرب عالمية ثالثة».
في المقابل، أدانت موسكو العملية العسكرية التي تنفذها كييف في شرق أوكرانيا، معتبرةً أنها « تشنّ حرب على شعبها»، وبأن قادتها «سيواجهون العدالة». كما اتهمت الغرب بالسعي إلى «السيطرة على أوكرانيا»، انطلاقاً من «طموحاته إلى السيطرة السياسية». وشددّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على أن الشرط الرئيسي لتسوية أزمة أوكرانيا هو وقف الخطوات غير الشرعية والعودة إلى اتفاق 21 شباط (فبراير) وإعلان جنيف الأخير، مشيراً إلى أن الانفصاليين لن يسلّموا أسلحتهم ويخلوا مقار رسمية شرق البلاد إلا بعد أن «تطبّق سلطات كييف اتفاق جنيف وتخلي الاعتصام المخزي في ساحة الاستقلال والمباني التي احتُلَّت في شكل غير شرعي».
نموذج جورجيا
وترافق هذا مع تنشيط التحركات العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا، إذ أُعلن عن بدء مناورات «بمشاركة كتائب من الوحدات الخاصة، رداً على العملية العسكرية التي أطلقتها كييف شرق أوكرانيا». وأوضح وزير الدفاع الروسي أن القوات الروسية «تتدرب على تنفيذ عمليات انتشار خاطفة لإنجاز المهمات المنوطة بها، وسيواكبها سلاح الجو بطلعات قرب حدود الدولة».
وفيما اعتبر لافروف أن الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا ستكون «مدمرة» بغياب توافق مع الموالين للروس في الأقاليم الشرقية، هددّ بتكرار «نموذج جورجيا» في شرق أوكرانيا إذا تعرضت مصالح بلاده للخطر، مشيراً بذلك إلى أحداث العام 2008 حين اندلعت حرب خاطفة بين روسيا وجورجيا، أعلنت موسكو في ختامها استقلال منطقتين انفصاليتين مواليتين لها في القوقاز هما أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. علماً أن هناك ثلاث مناطق ناطقة بالروسية في الشرق الأوكراني هي: دونيتسك ولوغانسك وخاركوف.
اتفاق جنيف
وكان من اللافت أن هذا التطور السلبي قد جاء بعد التوقيع على اتفاق جنيف (17/4)، بحضور ممثلين عن أوكرانيا وروسيا والاتحاد الأوروبي وأميركا، والذي ما انفكت الأطراف المعنية به تتبادل الاتهامات بشأن خرقه. وينص الاتفاق على نزع أسلحة المجموعات غير الشرعية في أوكرانيا، وإخلاء المباني التي تحتلها هذه المجموعات، كما ينص على إصدار عفو عام.
ولكن المراقبين أخذوا على الاتفاق افتقاده إلى الوسائل والأدوات الكفيلة بترجمته وتطبيقه، في وقت تنفي فيه موسكو مسؤوليتها عن تحرك الانفصاليين في الشرق، كما أنه ليس لدى كييف الجيش القوي بما يكفي لفرض القانون والنظام في عموم أرجاء بلده.
ولم ينعكس إبرام الاتفاق إيجاباً على الصعيد الميداني. وفي مؤشر إلى «تمرد» محتمل على حليفتهم موسكو، رفض الانفصاليون الانسحاب من مقار رسمية يحتلونها في شرق أوكرانيا، قبل استقالة الحكومة الانتقالية في كييف، على رغم تعهد الأخيرة إجراء «إصلاح دستوري شامل» يستجيب لعدد من مطالب المتحدثين بالروسية.
وكانت الحكومة الأوكرانية أصدرت بياناً أبدت فيه استعدادها لـ«إجراء إصلاح دستوري شامل يؤمّن صلاحيات للأقاليم» الشرقية، ويمنحها دوراً أكبر في الحكم المحلي. وتعهدت منح «اللغة الروسية وضعاً خاصاً» وحماية حقوق جميع المواطنين، أياً تكن لغتهم.
في المقابل، اعتبر المبعوث الروسي لدى الاتحاد الأوروبي فلاديمير تشيزوف أن الحكومة الأوكرانية «فهمت في شكل خاطئ» اتفاق جنيف، إذ تعتبر أن «الوثيقة تنطبق فقط على الأقاليم الشرقية والجنوبية والمطالبين بنظام فيديرالي، لكنها لا تنطبق على كييف حيث تعتقد بأن كل شيء مشروع، بما في ذلك الاحتلال المستمر لساحة الاستقلال».
عقوبات جديدة
وفيما كان الأوروبيون يضعون اللمسات الأخيرة على اتفاق بشأن تزويد أوكرانيا بالغاز من الاتحاد الأوروبي، بدا أن اتخاذ حزمة عقوبات جديدة بحق موسكو قد وصل إلى مراحله الأخيرة، ولكن مع لفت المراقبين الانتباه إلى التباين القائم في إيقاع التحرك صوب هذا الهدف بين كل من الولايات المتحدة ونظرائها الأوروبيين، وخصوصاً في ظل سعي «بروكسل» لتأكيد استقلاليتها النسبية في اتخاذ مثل هذا القرار، وفي ضوء حاجتها إلى الوقت اللازم لاتخاذه أيضاً.
وقد أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما (25/4)، أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يستعدان لتشديد العقوبات على روسيا، وذلك بعد اتصالات أجراها مع كل من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ورئيسَي الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون والإيطالي ماتيو رينزي، بهدف التنسيق لاتخاذ «خطوات إضافية لتدفع روسيا ثمناً»، على حد تعبيره. ولكن مع الاستدراك بأن «روسيا ما زالت تستطيع اختيار تسوية سلمية للأزمة، ويشمل ذلك تنفيذ اتفاق جنيف»، فيما أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، أن وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي سيجتمعون «في أسرع وقت» لبحث عقوبات جديدة.
عبر الحرب الباردة
أما موسكو فقد اتهمت الغرب بغض النظر عن انتهاكات كييف، ورأى الوزير لافروف أن الغرب يبدو وكأنه «لم يستخلص العبر من الحرب الباردة، ومن حقيقة فشل الجهود المبذولة لإقامة نظام موحد للأمن والاستقرار في أوروبا». مشيراً إلى أن فرصة فريدة لتجاوز انشقاق أوروبا في شكل حقيقي ضاعت بعد رفض اقتراحات موسكو الخاصة بإقامة شراكة حقيقية وتعزيز مبدأ وحدة الأمن في منطقة أوروبا والمحيط الأطلسي.
ويشير الوزير الروسي في كلامه هذا إلى سعي حلف الناتو إلى التوسع وضم ما تبقى من دول أوروبا الشرقية، في وقت ترى فيه موسكو أن هذا التوسع إنما يهدف في المقام الأول إلى تطويقها وحصارها والإضرار بأمنها القومي.
وتختلف النظرة بين موسكو وواشنطن تجاه دور ومهام «الناتو» بعد انهيار الاتحاد السوفياتي و«حلف وارسو». ففيما ترى الولايات المتحدة ضرورة قيام «الحلف» بدور وعاء الأمن القومي في القارة الأوروبية وربما في مجمل أنحاء العالم مستقبلا، ترى روسيا ضرورة أن تلعب منظمة الأمن والتعاون الأوروبي الدور الرئيسي في أمن القارة الأوروبية، على أن تلعب الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي هذا الدور على المستوى الدولي. كما ترى موسكو أن «الناتو» بات من مخلفات الحرب الباردة السابقة ويجب أن يتلاشى أو أن يتحول إلى منظمة سياسية غير عسكرية على أقل تقدير. ومع صعوبة تحقيق هذا الهدف اتجه الكرملين نحو تعزيز الوجود العسكري الروسي في الساحة السوفياتية السابقة من خلال قواعد عسكرية في طاجيكستان وقرغيزيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وأرمينيا، ومن خلال تقوية منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تضم حاليا ست دول، هي روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان وأرمينيا.
بيد أن الخلافات بين موسكو وواشنطن حول «الناتو» ودوره، لم تمنع تطوير التعاون بينهما في عدد من المناطق والملفات الساخنة. ومنها أفغانستان والملف النووي الإيراني. ومن المعروف أن روسيا التي تبدي خشيتها الشديدة من خطر التطرف الإسلامي، قدّمت العون «للحلف» في أفغانستان، لكن يبدو أن الوضع يتغير الآن، على خلفية الصراع الدائر حول مستقبل أوكرانيا. ويعتقد المحللون أن العلاقة بين الطرفين ستتوقف في المرحلة المقبلة على الطريقة التي ستتم بها تسوية الأزمة الأوكرانية، والتي قد تؤدي إما إلى تقسيم أوكرانيا، أو الحفاظ عليها كدولة «محايدة» بين «الناتو» وروسيا؟.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف