اجتاح العالم على مدار القرن الماضي شغف بـ«الهوية»، تعاظم بأحداث عالمية وإقليمية وفكرية مختلفة و/ أو مترابطة،ورغم صعود او خفوت هذا الشغف ، ظل حضور «سؤال الهوية» في واقعنا العربي حضوراً عضوياً مهماً في قلب ما وصلنا إليه ولعل في صلب «سؤال الهوية» العربي، يأتي سؤال «من هو الفلسطيني؟»، سؤالاً مشروعاً بل وواجباً، طالما طال طمسه تحت مختلف الدواعي. وحراك الأسرى المضربين عن الطعام يعد لحظة تجلٍّ مهمة وعضوية في هذا التساؤل، تتبدى أمامه تراكبية الهوية الفلسطينية وتجاوزها في آن واحد.

تقوم فكرة السجن فيما تقوم عليه على أساس سيطرتين:

_ السيطرة على الزمن، وإدراكه، أي علاقة الأسير بالسيل الزمني من حوله، وبالتالي موقعه منه، حينها يمكن تشكيل الذات الأسيرة كذات/ مادة «لينة»، وفصلها عن الموضوع/ القيمة.

_ السيطرة على الجسد/ المادة، بتقييده بأبسط معنى القيد، وتالياً بتعديله وطرقه وسحبه وتشكيله، لينتهي أداة طيّعة في يد الوسائل الحداثية للسيطرة.

يظهر الحراك الأسير المضرب عن الطعام، عبقرية المقاومة وأسبقيتها على أجهزة السيطرة للاحتلال، إذ لا تعود لـ«وجبة الطعام» في السجن أهميتها من حيث أنها وسيلة لإدراك الأسير لزمنه كما يريد له أن يدركه السجان، إنما يتحول «الإضراب عنها» إلى رفض لكامل السطوة الحداثية لفكرة السجن على الزمن، إذ إنّ السيطرة تقتضي أن يملك السجان قدرته على تحديد وتشكيل الزمن للأسير، عن طريق عديد الوسائل، أهمها «وجبة الطعام» نظراً إلى تأثيرها الجسدي. فيصبح تحرير الزمن في السجن فكرة مقاومة عبقرية.

وهذا بالضبط ما تحققه فكرة إضراب الأسرى عن الطعام، إذ يصبح الزمن ملكاً للأسير في ذاته، فيتحول الأسير إلى زمنية يبدأها هو ويسيطر عليها هو وحده، بعدما كان رقماً زمنياً تراتبياً، يخلق الاحتلال الأسير به ويمنحه حيزه الوجودي المقيد والمستلب «كرقم النزيل» أو «الزنزانة» أو «المحكومية»، وغيره مما لا يحضر دون المخزون المعنوي للقمع والسجن والاحتلال. وهذا ما تحاول أن تعادله فكرة تسمية الأسرى بمسميات مقاومة تعادل الشحنة، لكنها لا تكسر القيد كاملاً، منها للمثال «عميد الأسرى»، «شيخ الأسرى» وغيرهما، وهو ما تحقق مع أيمن الشراونة وغيره، ممن بتكاثف «زمنهم» تُهدَم زمنية السجان.

وإن كانت الحداثة ـــ سائلة كانت أم صلبة ـــ في جدلية الـ«السجن والعقاب» هي محض سيطرة على الزمن والجسد المتحرك فيها ـــ بحسب ميشيل فوكو وغيره ـــ فالحراك الأسير يحرر جسده بتشكيل زمنه الخاص المتجاوز للسجان، ويتحرك فيه بعيداً عن وسائل الرقابة والنحت والسيطرة الموجودة بيد السجان، ولعلّ هذا ما فضحته لحظة واحدة انهارت فيها تلك الدولة الكولونيالية، واستدعت أشرس وجوهها، هي لحظة محاولة الأسير سامر العيساوي ـــ الذي يدخل يومه الذي تعدى حاجز الـ222 يوماً من الإضراب ـــ لمس يد والدته في قاعة المحكمة، على ما به من وهن وضعف، فكانت تلك لحظة فاضحة لموازين القوى، وكيف لجسد يُفترض أنه مستلب ومقموع أن يهدد دولة كاملة بكامل أجهزتها. إن الحراك الأسير على بساطته البيولوجية، وتركيبته الفكرية والبنيوية، هو انتقال بفكرة المقاومة في أبسط صورها الذاتية والشخصية إلى نموذج متجاوز وجامع، يفكك كل البنية الحداثية والسلطوية والكولونيالية للقمع، فيعيد ربط سؤال الهوية الفلسطينية بــ: " 1_ البعد المكاني الفلسطيني (جغرافياً): فنرى في تلك الفضاءات المدينية والسكانية، التي لطالما عمل الاحتلال على تشويهها كمدينة يافا، التي بات من المعتاد فيها يومياً تحرير فضائها المديني العام بالعلم الفلسطيني ـــ لا علم الفصائل ـــ . واللغة العربية والهتاف العربي المساند للأسرى، ليخرج الفضاء المديني الجامع عن سطوة الزمن، الذي أراد له الاحتلال أن يظل مقيداً فيه.


2_ البعد الزماني الفلسطيني: فالحراك الأسير يقفز فوق البنى السياسية التي قسمت (تحت دواعي البراغماتية والميكافيللية) الفلسطيني إلى أرقام وفصائل ودول وجماعات. يصير حينها فلسطيني الشتات والمنفى متحداً مع فلسطيني الداخل المحتل (67 أو 48)، ولعل حملات «مي وملح» و«صورة الأسرى» ذات اللون البني، التي خلقت زمنيتها الجامعة على شبكات التواصل الافتراضي الاجتماعية، أبلغ دليل.

3_ البعد الإنساني الفلسطيني، وهو ما بدا في تضامن الكثير من الدول والمجتمعات والحراكات والجمعيا ت، وحتى الناس العاديين مع الأسرى (منه للمثال لا الحصر، زيارة وفد ألماني منزل الأسير سامر العيساوي).

سيظل الحراك الأسير المضرب عن الطعام، وجهاً فريداً للمقاومة، سما فوق الفصائل والسياسات والجماعات والدول، فقط بالإنسان. فطوبى لمن يكتبون التاريخ بجوعهم وصمتنا.

وهاهم الاسرى البواسل يتقدمون اليوم صفوف شعبهم، ليكونوا هم أصحاب المبادرات النضالية بالرغم من أنهم داخل السجون، يعانون ويتألمون، لكن توقهم لحريتهم وحرية شعبهم، جعلهم يتسامون عن كل الجراح والألام، ويتحدون محتل صهيوني ظن أن سجونه ستكون مقبرةً للرجال والمناضلين.

فمن إضراباتٍ بطولية يخوضونها بأمعائهم الخاوية وأجسادهم النحيلة، إلى إستشهاد الأسير عرفات جرادات داخل أقبية التحقيق في سجن مجدو الإسرائيلي، إنطلق الغضب الفلسطيني العارم في كل مكان، نصرةً للأسرى، وإستنكارا لصمت دولي مريب كان بالأمس القريب يدوي في اصقاع الدنيا من أجل جندي إسرائيلي أسرته المقاومة الفلسطينية وهو يعتدي ويشن هجماته الوحشية ضد شعب فلسطين، بينما خمسة الأف أسير فلسطيني يقبعون في سجون الظلم والقهر الصهيونية، يتغاضى العالم عن معاناتهم وحقوقهم وهو يعلم أنهم أصحاب حق يدافعون عن وطنهم وشعبهم في وجه أخر إحتلال في العصر الحديث.
وفي هذا الإطار فاننا ندعوا الى المزيد من حملات التضامن الدولية، والفعاليات والنشاطات للجاليات الفلسطينية في بلدان المهجر والشتات وتهديفها وتسيسها وايصالها لكل المستويات الشعبية والرسمية لتدويل قضية الأسرى ونقل معاناتهم للرأي العام العالمي.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف