يصعب على أي فلسطيني أو عربي ملتزم بحقوق الشعب الفلسطيني ان يرضى ان تُعالج قضية الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي العربية الفلسطينية من منطلق أكاديمي ـ موضوعي وكأنها أي قضية عادية شأنها شأن القضايا السياسية والاجتماعية الأخرى في منطقة الشرق الأوسط.
وبالطبع تفضل أكثرية الفلسطينيين في العالم، أينما وجدت (في الداخل أو في الخارج) أن تعالج قضية الاستيطان بالمقاومة السياسية أو المسلحة، لكونها تتجاوز المنطق الأخلاقي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقرارات الأمم المتحدة وتعطي إسرائيل ضوءاً أخضر لتطبيق نظرية شعب الله المختار الذي يحق له عدم الالتزام بالشرائع الأخلاقية والإنسانية التي تنطبق على باقي شعوب العالم.
غير ان مجموعة من المثقفين اليهود الشباب المعارضين للاستيطان والذين ربما ولدوا في ما يُسمى «الكيان الإسرائيلي» وجدوا انه عليهم ان يتناولوا هذه المأساة الإنسانية الكبرى المسماة «الاستيطان» عبر وسائل أكاديمية تعتمد على الأبحاث والدراسات في جامعات العالم خارج إسرائيل ربما أملاً في معالجتها.
وهذا خيار قام به مفكرون آخرون بارزون يهود عاشوا في إسرائيل وغادروها وقرروا فضح ازدواجية قيمها في إبحاثهم ودراساتهم في جامعات العالم وبينهم ايلان بابي وغيره.
ربما يمكن إدراج الأكاديمي الشاب الدكتور عوديد هاكالي في هذه المجموعة. وهو استاذ العلوم السياسية في جامعة كوينز في اونتاريو (كندا) الذي أصدر وزملاء له مؤخراً كتابا بعنوان «المستوطنون في الأراضي المتنازع عليها» والذي تضمن مجموعة من المقالات حول الاستيطان في اماكن مختلفة من العالم، أهمها مقالته في الفصل الثاني من الكتاب بعنوان: «تردد الدولة: المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية». ومقالته الأخرى مع شريكه في تحرير الكتاب نيوفيتوس لويزيديس وهو استاذ يوناني ـ قبرصي الجذور يحاضر في جامعة كنت البريطانية.
يؤكد هاكالي في الصفحة (30) من الكتاب انه بعدما استعاد حزب العمل الإسرائيلي بقيادة اسحق رابين السلطة سنة 1992 ثم وقّع بعد ذلك اتفاقية التفاهم على المبادئ مع «منظمة التحرير الفلسطينية» قررت الحكومة الإسرائيلية اتخاذ إجراءات أكثر تشدداً إزاء انشاء المستوطنات، حيث وضع رابين قيوداً على انشاء «مستوطنات سياسية» يقوم بها «ايديولوجيون» في مناطق مكتظة بالسكان الفلسطينيين وأنطلق آنذاك، حسب قول المؤلف، ما سُمي «تجفيف المستوطنات» حيث قُلصت الاعتمادات المالية الداعمة لهذه المستوطنات كثيرا. بيد ان عودة حزب الليكود إلى الحكم في 1996، حسب ما أضاف هاكالي، أعادت زيادة هذه المخصصات.
كما يشير المؤلف في الصفحة نفسها إلى ان حزب الليكود في حكومته لعام 1977 وفي حكوماته اللاحقة، حاول بث الفكرة في عقول الإسرائيليين أن الضفة الغربية (وما سمته هذه الحكومات اليهودا والسامرية) هي جزء لا يتجزأ من إسرائيل، فيما عارضت حكومة العمل بقيادة رابين هذا التوجه واعتبرت أن المستوطنين السياسيين الايديولوجيين يشكلون خطراً على الدولة برغم رضوخها للمستوطنات التي اعتبرتها ذات طابع أمني اندرج في خطة بيغال آلون (نائب رئيس الحكومة العمالية آنذاك).
وبالتالي، نشأت معارضة ليكودية قوية لمواقف حزب العمل في السبعينات ولاتفاقيات أوسلو في مطلع التسعينات أدت إلى اغتيال رابين واستمرار توسع المستوطنات عموما وإلى نشوء مستوطنات تتجاوز التشريع الحكومي ولكن لديها مؤيدوها داخل الحكومة.
ويعتبر المؤلف ان صعود حزب الليكود إلى السلطة قلص من أهمية منظمات صهيونية متطرفة على شاكلة منظمة «غوش ايمونيم» إذ ان أهداف الجهتين بالنسبة للتوسع والاستيطان تطابقتا، وخصوصا في الضفة الغربية (ما سميتاه اليهودا والسامرية) وبالتالي أصبحتا متحالفتين في احباط مشروع الدولتين.
ويشير هاكالي إلى ان المستوطنين وقادتهم قرروا التغلغل إلى داخل المناصب السياسية القيادية في حكومة الليكود والانخراط بكثافة في الجيش وتبوء المناصب الحساسة فيه مما لم يكن سهلا خلال قيادة رابين.
وكانوا يسعون إلى احتلال مناصب وزارية فاعلة لديها مسؤوليات مباشرة في البناء والتعمير والدارات المحلية المرتبطة بالمناطق التي احتلتها إسرائيل في عام 1967.
أما الامر الذي تحفظ رابين وحكومته تجاهه فكان دخول رجال الدين اليهود في الجيش، وخصوصا منهم المرتبطون بانشاء المستوطنات ذات الطابع الديني السياسي وبعض هؤلاء استهدفوا تسلم مناصب عسكرية (بعد اغتيال رابين) في الضفة الغربية وصاروا يقدمون الدعم للمستوطنين، حتى غير الشرعيين منهم، وأصبحوا عُرضةً لرفض الأوامر بتخلية هذه المستوطنات إذا صدرت.
وانخرط المستوطنون، حسب المؤلف في «الحزب الوطني الديني» وفي الليكود وأصبحوا يشكلون كتلة قوية داخله وفي حزب «اسرائيل بيتنا» و»امانا» وبما ان الحكومات في إسرائيل تعهد التحالف مع الأحزاب الصغيرة، أصبح المستوطنون جهة فاعلة في القرار السياسي الإسرائيلي.
وخطورة هذا الأمر، حسب المؤلف، ان كل الأحزاب، حتى حزب العمل حالياً، تحاول ان تستقطب الأحزاب الصغيرة لتحصل على الأكثرية ولتؤلف الحكومة، وهذا يجعل التفاوض مع القيادات الفلسطينية صعباً إلى درجة أكبر، لكون الايديولوجيات التوسعية للمستوطنين أصبحت أكثر فعالية فيما استمرت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في التردد والازدواجية في التعامل.
ومن الأمور التي يشير إليها المؤلفان في الفصل الأول، ان بريطانيا تتحمل مسؤولية هذه الأوضاع المتردية. فبعد انسحابها من فلسطين، لم توضح الوضع القانوني للضفة الغربية برغم ان الضفة أصبحت تحت سلطة الأردن ولكن من دون اعتراف دولي بذلك. كما لم يوضح القرار الدولي آنذاك مصير الفلسطينيين ودولة فلسطين ولذلك اعتبر الإسرائيليون الراغبون بالتوسع ان الضفة الغربية هي «أرض متنازع عليها» وتذرعوا بما استطاعوا التذرع به تاريخياً ودينياً للاستيلاء على هذه الأراضي.
كما يوضح هاكالي ان حكومة غولدا مايير وموشي دايان، وبعد الاستيلاء على الضفة الغربية 1967، لم تكن مستعجلة في التفاوض مع الفلسطينيين والعرب حول ملكية هذه الأراضي واستخدمت عنصر الوقت لفرض سيطرتها على «منطقة غير واضحة الملكية».
ومن الأمور اللافتة، ما يذكره الكاتب في الصفحة (26) حول الفارق بين سياستي شمعون بيريز واسحق رابين حيث يشير إلى ان شمعون بيريز في منصبه كوزير الدفاع في الحكومة الإسرائيلية العمالية في أواسط سبعينات القرن الماضي مال إلى توفير الحماية العسكرية لمستوطنين انشأوا مستوطنات غير شرعية آنذاك، فيما عارض رئيس الوزراء اسحق رابين ووزير خارجيته بيغال آلون توفير أي دعم لانشاء المستوطنات، واعتبر الاثنان ان ما أنشئ من مستوطنات يجب إعادته أو مبادلته مع الأردن في عملية سلام مع هذا البلد. ولدى خسارة حزب العمل انتخابات عام 1977 أمام حزب ليكود مناحيم بيغين تواجد حوالي 4500 مستوطن في الضفة الغربية كانوا قد فرضوا على حكومة حزب العمل، حسب المؤلف، بسبب دعم بعض وزراء هذه الحكومة وبينهم شمعون بيريز وطبعاً ازدادت أعداد هؤلاء المستوطنين في حكومة بيغين التي رفضت قرارات الأمم المتحدة للتقسيم سنة 1947 لاعتبارات ايديولوجية واعتبرت الضفة الغربية جزءا من إسرائيل. وانتقل أكثر من مئة ألف مستوطن إلى أكثر من مئة مستوطنة جديدة في الضفة الغربية بين عامي 1977 و1990 حسب المؤلف.
وقد تحدث هاكالي ولويزيديس في ندوة جرت في «المعهد الملكي للشؤون الدولية» (تشاتهام هاوس) في لندن الخميس في 21 نيسان/ابريل وأوضح برغم ان إسرائيل حالياً لا تعلن رسمياً اعترافها ان الأراضي التي يحتلها المستوطنون في الأراضي الفلسطينية (وخصوصاً الضفة الغربية) هي جزء من إسرائيل، فانها تتغاضى عن تسلح المستوطنين واعتداءاتهم وتعطيهم حق التصويت في الانتخابات الاشتراعية الإسرائيلية وهناك وزراء في الحكومة الإسرائيلية يدعمون أفعالهم وتجاوزاتهم ويفوزون بالمناصب بفضل أصواتهم.
وأضاف ان أكثر من خمسين في المئة من الأراضي التي تم مؤخراً الاستيطان فيها قد أصبحت في هذا الوضع نتيجة للتسهيل المباشر أو غير المباشر من جانب الحكومة الإسرائيلية للمستوطنين لتنفيذ هذا الأمر.
وأشار إلى انه إذا ظلت الحكومة الإسرائيلية تغض الطرف عن ممارسات المستوطنين فان المقاطعة الدولية لبضائع المستوطنات والعداء لسياسات إسرائيل قد تتطور في اوروبا ودول أخرى وقد يؤدي هذا إلى منع غسرائيل من المشاركة في المناسبات الرياضية والثقافية العالمية.
واقترح هاكالي، الذي يُعرّف عن نفسه بالمحاضر الكندي من أصل يهودي (وهو يحمل الجنسية الكندية) اعتماد سياسة الجزرة والعصا مع إسرائيل بالنسبة إلى استمرار تشجيعها للاستيطان وذلك عبر وعد الدول الكبرى بتعزيز حمايتها لإسرائيل عن طريق «حلف شمالي الاطلسي» في مقابل تخلي إسرائيل عن تشجيع وحماية الاستيطان والمستوطنين وبالتالي دفعهم للانسحاب من مناطق احتلالهم والعودة إلى داخل الحدود الإسرائيلية.
ولكنه أضاف انه لا يبدو ان حكومة بنيامين نتنياهو في هذا الوارد وخصوصاً بعد تصريحاته الأخيرة ان هضبة الجولان جزء لا يتجزأ من إسرائيل من الآن إلى الأبد. ولذلك فليس هناك أي حل واقعي لقضية المستوطنات الإسرائيلية من دون تدخل دولي ضاغط على إسرائيل، حسب هاكالي.
سمير ناصيف

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف