يفصلنا شهر واحد عن الذكرى السنوية الأولى لتوقيع «اتفاق خمسة زائد واحد» بين إيران والدول الست الكبرى الذي طوى ملف إيران النووي. وبرغم ذلك، مازالت العلاقات الأميركية - الإيرانية غامضة ومفتوحة على الاحتمالات كلها. وإذ راجت في التحليلات العربية إثر توقيع الاتفاق المذكور مقولات «خيانة واشنطن للحلفاء الإقليميين» و «الضوء الأخضر الأميركي لإطلاق يد إيران في شؤون المنطقة» وصولاً إلى وجود «بنود سرية غير معلنة للاتفاق»، يبدو أن مؤشرات الواقع الراهن تهز تلك المقولات بعمق. لم يكن «اتفاق خمسة زائد واحد» اتفاقاً تقنياً - حقوقياً فحسب، بل في الجوهر هو رهان على المستقبل من كل الأطراف. بمعنى أن نتائج هذا النوع من الاتفاقات لا يمكن تشخيصها خلال فترة زمنية قصيرة أو منظورة، بل على مدى أوسع تتداخل فيه سياقات محلية وإقليمية ودولية. على ذلك لا يمكن التكهن الآن بإجابة سؤال المقالة، وإن كانت مؤشرات الاقتصاد والسياسات الإقليمية تساعدان على فهم الحراك الأميركي ـ الإيراني الراهن.
الاقتصاد مدخلاً لمكاسب سياسية
راهنت إيران على إعادة الاندماج في النظام الاقتصادي العالمي عقب التوقيع على الاتفاق النووي. وكان واضحاً أن رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها وتحرير ودائعها المجمدة سيعززان طموحها بالتحول إلى قوة اقتصادية كبرى في المنطقة. في المقابل، أرست أميركا رهانها على أن فتح الاقتصاد الإيراني أمام الاستثمارات الدولية سيتطلب تغيير البنية التشريعية الإيرانية الحالية لجذب الاستثمارات، وصولاً إلى قدرة الشبكات الدولية على تغيير المعادلات الاقتصادية الإيرانية لمصلحتها، برؤوس الأموال الضخمة وبالشراكات العابرة للقارات. وكما هو معلوم، يؤدي تغيير المعادلات الاقتصادية إلى تغيير مماثل لاحق في المعادلات السياسية، وهو ما عملت واشنطن عليه منذ عملية التفاوض على الاتفاق. الآن، وبعد مرور حوالي العام على إبرام الاتفاق النووي، يتضح أن توقعات إيران الخاصة بالانتعاش الاقتصادي الفوري بعد إبرام الاتفاق النووي ليست واقعية بالضرورة.
اعتقدت طهران أن الاتفاق النووي سيؤمن لها على وجه السرعة روابطها التي كانت مع النظام المالي العالمي، مثلما يضمن لها حصة معتبرة من الاستثمارات الدولية على أراضيها. ولكن حصل عكس ذلك، فقد تم تأجيل اندماج إيران في النظام المالي العالمي جزئياً بسبب استمرار العقوبات الأميركية غير المرتبطة ببرنامج إيران النووي. وهذه العقوبات المستمرة معطوفة على الغرامات الأميركية المفروضة على البنوك الأجنبية التي تتعامل مع إيران، ردعت البنوك الدولية عن التعامل مع إيران برغم إبرام الاتفاق النووي. وكان لافتاً أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري دعا البنوك الأوروبية إلى إعادة التعامل مع إيران في «إطار الضوابط المنصوص عليها في الاتفاق النووي»، ما يعني ترك الباب موارباً أمام هذه البنوك، فلا هو مفتوح على مصراعيه ولا هو مغلق في الوقت نفسه، أي ضبط اندفاعتها وفقاً للرغبات الأميركية. ولأن البنوك الدولية غير راغبة في المخاطرة بالتعامل مع إيران على الضد من رغبات واشنطن، وخصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية ومناخ العداء لإيران المخيم على الكونغرس الأميركي، يبدو سلوك البنوك الدولية مفهوماً ومسيطراً عليه أميركياً إلى حد كبير. فالسوق الإيراني الواعد ليس من الضخامة إلى الحد الذي تتخلى فيه تلك البنوك عن حذرها المفهوم، وهو ما ينطبق على البنوك الأوروبية أيضاً.
تعرف طهران مثلما تعرف واشنطن أن تحسين العلاقات الإيرانية - الأوروبية لا يمكن أن يتم إلا في إطار أشمل مفاده تحسين العلاقات الإيرانية - الأميركية، فلا أحد في أوروبا يريد تعريض مصالحه مع أميركا للخطر من أجل إيران. ولعل زيارات الرئيس الإيراني حسن روحاني الأوروبية التي حظيت بتغطية إعلامية دولية غير مسبوقة ومقارنتها بما تمخض عنها فعلياً من نتائج، يعزز تلك المقولة. على ذلك تحتفظ إدارة أوباما بخيوط العزلة المالية والاقتصادية المفروضة على إيران بعد مرور العام على إبرام الاتفاق النووي، ولا يعتقد أن إدارة هيلاري كلينتون أو إدارة دونالد ترامب بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية ستكون أقل تشدداً من إدارة أوباما في ذلك.
بالمختصر، تريد واشنطن فتح الأسواق الإيرانية وتغيير معادلات القوة الاقتصادية والسياسية هناك، قبل الموافقة على إرواء عطش إيران في التحول إلى قوة اقتصادية كبرى. وتجادل الباحثة الأميركية في «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» بواشنطن شيرين هنتر قائلة: «بافتراض أن أميركا رفعت كل العقوبات عن إيران، فإن نهوض إيران الاقتصادي وإعادة اندماجها في المجتمع الدولي لن يكون ممكناً من دون تغيير أساسي في السياسة والاقتصاد. فعلى سبيل المثال، لا تستطيع إيران توقع تنشيط قطاع السياحة فيها من دون تخفيف القيود الاجتماعية... ولا يمكن لإيران أن تنهض اقتصادياً وعلمياً والانضمام إلى ركب الدول المتقدمة في ظل التمسك بسياسات مدفوعة أيديولوجياً على الصعيد الاقتصادي - الاجتماعي». تقليب النظر في فقرة شيرين هنتر يقول الكثير، ويرسل رسالة بمضمون الشروط الأميركية مقابل رفع باقي العقوبات المفروضة على إيران وفتح الطريق أمام إعادة الاندماج في الاقتصاد الدولي.
السياسات الإقليمية
راهنت طهران أن نفوذها المتصاعد في قضايا المنطقة سيجبر واشنطن ـ بعد توقيع الاتفاق النووي - على الاقتراب أكثر من مواقفها، خصوصاً في ضوء الاستراتيجية الأميركية العامة بتقليل حجم الانخراط في قضايا الشرق الأوسط. من هنا رأت طهران في الاتفاق النووي تقنيناً لوضعيتها الإقليمية واعترافاً دولياً أوتوماتيكياً بمكانتها في المنطقة. في المقابل، راهنت واشنطن على إضافة إيران بنفوذها المتزايد إلى رصيد واشنطن في المنطقة، بمعنى أن إدارة أوباما رأت في الاتفاق النووي فرصتها لتعديل السلوك الإقليمي الإيراني بما يخدم سياساتها العامة في الشرق الأوسط، بالاستناد إلى رغبة إيران في إعادة الاندماج بالنظام الدولي. وكان من نتيجة الاتفاق النووي استنفار الأطراف الإقليمية غير المنخرطة فيه بتكتل إقليمي في مواجهة إيران ودورها الإقليمي المرتقب، فرأينا برغم كل القضايا الجوهرية والخلافات تقارباً تركياً ـ عربياً - إسرائيلياً غير مسبوق يتمحور حول حصار إيران مع تهميش القضايا الأخرى، وهو تقارب مرشح للتبلور باضطراد خلال المرحلة المقبلة. وحتى علاقات إيران وروسيا المتنامية ليست خالية من المكون الإسرائيلي، لأن موسكو ليست على استعداد لتخريب علاقاتها مع إسرائيل من أجل إيران. على الأرجح ستستمر موسكو في لعب «الورقة الإيرانية» في أزمات الشرق الأوسط، لعلمها بطبيعة العلاقات الإيرانية - الأميركية الراهنة وبالتباين الحاد في الرهانات بين طهران وواشنطن، ذلك الذي يصل إلى حد التصادم في الرؤى والتوقعات من الاتفاق النووي. من ناحيتها، لا تريد واشنطن صراعاً إقليمياً صفرياً بين الرياض وطهران، وإنما «تقاسم النفوذ في المنطقة بينهما» وفقاً لتعبير أوباما وطبعاً تحت المظلة الأميركية. قد لا تعجب رغبة أوباما طموحات السعودية، لكنها بالتأكيد لا تروق لإيران التي راهنت على الاعتراف بالنفوذ بعد إبرام الاتفاق النووي، وليس اقتسامه مع أي طرف إقليمي.
الخلاصة
تتباين رهانات الطرفين الأميركي والإيراني بخصوص نتيجة الاتفاق النووي، وما يفترض أن يتمخض عنه اقتصادياً وسياسياً وإقليمياً، إلى الحد الذي يهز بعمق مقولات الربح الإيراني المؤكد من الاتفاق، كما هو رائج في التحليلات السياسية العربية. لم تحسم نتيجة الرابحين والخاسرين من الاتفاق النووي بعد، وربما كان الأفضل موضوعياً وتحليلياً التأمل في المعركة الدائرة ومؤشراتها وأداء اللاعبين وليس التنطّح لإعلان نتائج المباريات قبل نهايتها. لا يعني ذلك أن الاتفاق النووي سيُلغى كما يطالب بعض المحافظين في إيران وبعض الدوائر في الكونغرس الأميركي لسببين، الأول أن كلا الطرفين الإيراني والأميركي لم يفقد طموحه بعد في ترجمة نتائج الاتفاق لمصلحته، والثاني يتمثل في الثمن الكبير الذي سيدفعه الطرفان في حالة إلغاء الاتفاق.
أعفى الاتفاق النووي إيران من توقع ضربات عسكرية محتملة لمنشآتها النووية، إلا أنه لم يحيدها عن الضغط بالاقتصاد والقصف السياسي العابر للقارات والتحالف الإقليمي الواسع المتبلور في مواجهتها. في المقابل، ربح أوباما - بمقتضى الاتفاق - التأكد من عدم قدرة إيران على التحول إلى قوة عسكرية نووية خلال السنوات العشر المقبلة على الأقل، لكنه لم يربح رهاناته في تغيير إيران من الداخل وفي تعديل سلوكها الإقليمي وفقاً لرؤية واشنطن لتوازنات الشرق الأوسط. رهانات الطرفين في أوجها، ولا يبقى سوى الزمن ومهارات اللاعبين حكماً على النتيجة.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف