يبدو أن شعار " التغيير الآن" الذي طرحه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في بداية عهده الرئاسي، منذ أربع سنوات ونيّف، لم يتعدّى مرحلة الاستهلاك الانتخابي، فانتهى معها لتحلّ محلّه سلسلة من القوانين ومشاريع القوانين والتدابير التي وجّهت الدفة باتجاه اليمين، أو بالأحرى اتبعت نهجا أسهم في تفكيك قوى التحالف الذي أتى به إلى الحكم وساعد في تغذية اليمين المتطرف بفعل الفشل المتكرر على أكثر من صعيد. وإذا ما أردنا إعطاء لمحة سريعة عن نتائج أربع سنوات من حكم أتى، مبدئيا، ليغيّر في الاتجاهات التي حددتها الأعوام التسعة عشر لحكم اليمين، لقلنا أنها سنوات عجاف ازدادت فيها البطالة بشكل مخيف في وقت فشلت فيه الحكومات المتعاقبة في وضع السياسة الضرائبية على المعاشات الكبيرة موضع التنفيذ ولم تنجح السياسات الاقتصادية والمالية المتبعة - خاصة تلك التي وضعها وزير الاقتصاد الجديد إيمانويل ماكرون - سوى في التراجع أمام رأس المال وتعبيد الطريق أمام إملاءاته... الأمر الذي جعل الأكثرية الشعبية التي أتت بالرئيس الفرنسي إلى الحكم تتآكل تدريجيا لتنحدر اليوم إلى نسبة لا تتجاوز ال17 بالمائة.
ولعلّ المثال الأكثر وضوحا على ما نقول هو مشروع وزيرة العمل، ميريم الخمري، الذي تقدّمت به إلى الحكومة في الثامن من شهر آذار الماضي والذي أثار الكثير من الجدل والنقاش، حتى داخل مجلس الوزراء الفرنسي نفسه، والذي وضعت الأحزاب السياسية، اليسارية خاصة، والنقابات مئات اقتراحات التعديل على نصوصه قبل أن يواجه بتحرك عمالي كبير وإضرابات وتظاهرات لم تشهد فرنسا لها مثيل منذ أكثر من ثلاثين عاما. والملفت أن رئيس الوزراء مانويل فالس لم يدخّر جهدا لإمرار مثل هذا المشروع، بما في ذلك التهديد باستخدام الفقرة الثالثة من المادة التاسعة والأربعين من الدستور الفرنسي التي تعطي للحكومة حق إقرار مشاريع مالية وغيرها بالإعلان عن مسؤوليتها عما يمكن إن ينتج عن تطبيق هذه المشاريع.
لماذا هذا الإصرار على مشروع الخمري وعدم الأخذ باقتراحات التعديل المطروحة من قبل النقابات؟
الجواب واضح لا لبس فيه. فهذا المشروع، بتوجهاته وبالعديد من مواده، يؤدّي إلى إعطاء أصحاب المال والعمل حرية مناورة واسعة تسمح لهم بفرض شروطهم وقيادة المؤسسات على هواهم ودون الأخذ بعين الاعتبار دور النقابات أو الدولة في تسيير شؤونهم وزيادة أرباحهم. كل ذلك تحت شعار "المرونة" وتمكين الصناعات الفرنسية والإنتاج الفرنسي عموما من المنافسة وفق شروطها.
من المادة الثانية ... إلى الصرف من الخدمة
لندخل إلى تفاصيل المشروع، ولنبدأ بالمادة الثانية التي تشكّل أهم المشاكل فيه. فهذه المادة، التي تحاول نقل الاتفاقات التي تتم بين أصحاب العمل والعمال، ممثلين بنقاباتهم وبالتحديد بتلك الأكثر تمثيلا، من فروع الانتاج إلى كل مؤسسة على حدة، أي إلى حيث يستطيع كل رب عمل فرض شروطه الخاصة واستنساب ساعات العمل والأجر والساعات الإضافية والفرص السنوية، وغيرها، وفق مصلحته دون سواه، بما يعني فقدان الدور الذي تلعبه النقابات في الدفاع عن المنتسبين إليها وفي تحديد شروط العمل في فروع الانتاج الأساسية، وبالتالي إزالة آخر العقبات من أمام رأس المال في توجهه للحصول على مزيد من الأرباح.
وإذا ما اتجهنا باتجاه المواد المتعلقة بشروط تسريح العمال والأجراء، لوجدنا، هنا أيضا، الكثير من التسهيلات المعطاة مجانا إلى أرباب العمل. فقد ألغى مشروع وزيرة العمل الشرطين المعتمدين حاليا للتسريح الاقتصادي، وهما وقف النشاط الاقتصادي نهائيا أو إعادة تنظيم وضع المؤسسة شرط إعطاء مبررات مقنعة عن كونها في خطر؛ كما ألغى، تقريبا، مسؤولية مجالس العمل التحكيمية وصلاحيتها في تحديد تعويض الصرف من الخدمة، خاصة في حالات الصرف التعسفي. هذا، إلى جانب إلغاء إلزامية خضوع العامل الجديد في المؤسسة للفحص الصحي والتخفيف من شروط الصحة والسلامة في العمل... ولا ننسى محاولات إعادة تقييم المعاش التقاعدي باتجاه تقليصه والمعارك التي خاضها العمال والمستخدمون والموظفون ضد التعدي على تقاعدهم، كما لا ننسى، كذلك، المحاولات العديدة أيام الرئيس السابق واليوم تجاه تقليص دور الضمان الاجتماعي والخدمات التي يقدّمها.
قانون لخدمة أرباب العمل
"إعمل كثيرا واقبض القليل وقلّص أيام الراحة والعطل": هذا هو الشعار الذي ترفعه حكومة مانويل فالس "الاشتراكية" تحت شعار المرونة المزعوم.
وهكذا، وبدلا من تنفيذ البرنامج الذي انتخب على أساسه، إذا برئيس حكومة فرنسا مانويل فالس ووزيرة العمل فيها ميريم الخمري يغرقان المجتمع الفرنسي في وحول عدم الاستقرار، من خلال نص قانون يؤدّي إلى التخلي عن الدور المراقب الذي تلعبه الدولة وإلى إضعاف الدور المنظّم والمستقل الذي تلعبه الحركة النقابية وإعطاء تنازلات مجانية للرأسماليين الكبار في إدارة الاقتصاد الوطني وتحديد التوجهات الجديدة للسياسة الاجتماعية. وهو أمر لم تتجرأ عليه الحكومات اليمينية "الليبرالية" السابقة. كما لم تتجرأ هذه الحكومات على قمع المتظاهرين ومنع حق التظاهر المنصوص عليه في القوانين التي تخرقها، اليوم، القوى الأمنية بحجج مختلفة.
يضاف إلى ما سبق ذكره أن القانون، في حال إقراره، سيشكل سابقة خطيرة في مجال التعامل المزدوج مع الأمور الاجتماعية، خاصة وأنه لا يأتي على ذكر "المؤسسات الصغيرة والمتوسطة" التي تعدّ بالملايين والتي تضم نسبة لا يستهان بها من العمّال والأجراء وكيفية التعاطي مع حقوقهم.
ويقال في أكثر من موقع سياسي أن مانويل فالس يظن أنه يستطيع عير اتباع هذه السياسة تأمين الشروط لإعادة انتخاب فرانسوا هولاند لدورة رئاسية ثانية وتفتح له الباب في العام 2022 لتبوء هذا الموقع من بعد هولاند؛ بما يعني أنه رأى في التخلّي عن الموقع الاجتماعي الذي أمّن للاشتراكيين شروط الوصول إلى سدة الرئاسة نافذة تفتح باتجاه البرجوازية الفرنسية التي لا بد وأن تتبنى ترشيح هولاند وترشيحه هو على وجه الخصوص، انطلاقا من الخدمات الجلّى التي قدّمها لها حتى الآن؛ هذا، إلى جانب الاعتقاد أن البرجوازية خائفة من الخطر الذي بدا يشكّله صعود اليمين المتطرف، المتمثّل بمارين لوبان وحزب "الجبهة الوطنية" ذي الميول الفاشية، في الاستفتاءات، بعد أن حقق وللمرّة الأولى تقدما ملحوظا في الانتخابات المناطقية مستفيدا من السياسات الاقتصادية والاجتماعية الخاطئة التي همّشت مئات آلاف الشباب من الداخلين الجدد إلى سوق العمل وطرحت قسما منهم لقمة سائغة أمام المجموعات الإرهابية.
لذا، وعلى الرغم من عشرات التظاهرات العمالية في باريس والمدن الفرنسية كافة، وعلى الرغم من الإضرابات التي عمّت وتعم أغلبية القطاعات الإنتاجية، وصولا إلى التعليم، لا تزال ميريم الخمري مصرّة على موقفها المدعوم من رئيس الحكومة وفي ظل صمت مطبق من رئيس الجمهورية ومن النقابات التابعة للحزب الاشتراكي التي خرجت على الإجماع النقابي بحجة أخذ الحكومة ببعض اقتراحات التعديل التي تقدّمت بها واستنادا إلى التبرير القائل أن التقدم الاجتماعي هو رديف التقدم الاقتصادي الذي يحتاج للكثير من "المرونة" من أجل أن يتحوّل الاقتصاد الفرنسي إلى اقتصاد "تنافسي".
وهكذا تسقط اليوم السياسات الاشتراكية – الديمقراطية في فرنسا كما سقطت، قبل ذلك، في أكثر من بلد أوروبي لعبت فيها الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية دور اليمين في التصدي للمطالب والطموحات العمالية والشعبية. وهكذا أيضا تعود القوى النقابية العمالية الجذرية، وبالتحديد "السي جي تي" (CGT)، إلى واجهة التغيير لتطرح في آن معا مهمات مرحلية في ميدان قانون العمل مترافقة مع مهمات إستراتيجية لا بد أن تلعبها تلك القوى، وبالاستناد إلى قوى تحالف اليسار، في مجال تجاوز النظام الرأسمالي في فرنسا، كون هذا التجاوز يشكّل الحل الوحيد الكفيل بإخراجها من الأزمة المستعصية التي تعيشها منذ العام 2008.
صحيح أن قوى تحالف اليسار عموما لا تشكّل سوى 12 بالمائة انتخابيا (وهو الرقم الذي حصل عليه جان - لوك ميلانشون في العام 2012)، إلا أن هذه النسبة متحركة وقابلة للزيادة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تطوير وحدة اليسار والقوى العمالية النقابية الجذرية على أساس برنامج للتغيير لا يتوقف فقط – كما هي الحال اليوم – عند شعارات تداول السلطة وتحسين الظروف الاجتماعية والحفاظ على المكتسبات، بل يعود إلى التقاليد الثورية الحقيقية، إلى المساواة بديلا من العدالة الاجتماعية التي تكتفي بالسعي إلى تخفيف الفروقات الهائلة بين الأغنياء والفقراء بدل العمل على إلغائها. وإذا كانت بعض شعارات الانتفاضات والثورات العربية والتحركات ضد الطغمة المالية العالمية في عقر دارها، بدءا بوول ستريت، قد أعادت إلى الأذهان هذه التقاليد، وإذا كانت المظاهرات العمّالية والشعبية التي عمّت أوروبا في الأعوام الأخيرة، وبالتحديد تلك التي تجتاح فرنسا اليوم، قد أظهرت وجود مخزون ثوري قابل للتوسع، فإن هذا يعني أن شعار التعقل والوسطية الذي انتهجته أحزاب الديمقراطية – الاشتراكية هو شعار فاشل بما يساعد على تأطير قسم كبير من القوى الاجتماعية التي حملته، ونعني هنا جمهور الطبقة الوسطى بالتحديد، مع الطبقة العاملة وقواها السياسية في معركة التغيير.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف