قرأت قبل فترة في اسبوع واحد ثلاث روايات عراقية بنسخة الكترونية اهداها لي صديق عزيز عبر ايميل.. هذه الروايات هي: الحفيدة الامريكية للكاتبة والإعلامية انعام كجه جي ((1952، ويا مريم، للكاتب والأكاديمي والإعلامي سنان انطوان ((1967، والثالثة، فرانكشتاين في بغداد، للكاتب والشاعر احمد السعداوي ((1973، انكببت عليها بعد انشغال بقراءات سياسية وكتب مذكرات، وهذه الاخيرة لا تختلف عن كتب الادب في المضمون كثيرا رغم ما تتسم به كل منها بقواعد فن وصنعة. ولعل ملاحظتي الاولى عن الجامع بين الروايات هي انها تروي عن واقع المجتمع العراقي ما بعد الاحتلال والغزو المتعدد الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة الامريكية. وقد تكون هذه النصوص من ابرز الروايات في تلك الفترة وعنها، وربما هناك غيرها ولا يقلل منها امرا اذا ذكرت بعدها في التسلسل او قبلها حسب السبق الزمني، في وقت آخر مناسب. ولكن ما يهمني الان فيها هو هذا الاختيار للموضوع وعكسه في هذه الروايات. وهذا ما يحسب الى الروائيين والروايات بذاتها. اما ملاحظتي الثانية فهي ما سجله كل روائي منهم من شهادات واقعية وتوثيق لأحوال قائمة او مشاهد تاريخية عن الفترة تلك ادبيا وانعكاساتها على طبيعة ومستقبل المجتمع العراقي. وملاحظتي الثالثة تتركز على متعة ما حوته الروايات من التفات الكتاب الى توثيق تراث وأمثال شعبية ونصوص وطقوس دينية غير مدونة نصيا وما اراد كتابها منها. وكلها في الاخير كسرديات مدونة تصب في تعرية الاحتلال الاجنبي وفواجعه وتداعياته الاجتماعية وأهدافه في تدمير المجتمع وتخريب الانسان/ الشعب في البلد المحتل.
وهناك ملاحظات اخرى غير الجوانب الفنية التي يمكن التطرق لها بما يتعلق بوضع الروائيين واغترابهم، خارج الوطن او داخله. وكان يمكن ان يقال عن الغربة وطولها وآثارها النفسية والسياسية، وكما يمكن ان تترك لها من اثر او تناص في نص الابداع الروائي. وهذا يلمس عند انطوان وكجه جي في موضوعنا الحالي. فكجه جي تعيش في فرنسا وانطوان يعيش في امريكا، حاليا، ونصهما تتداخل فيه صور المكانين او انعكس في مراياه الفنية اسلوبيا وتقنية، حتى وهو مركز في سرد عن ابطال وشخصيات يعيشون محنتهم وأوجاعهم داخل العراق. او يمكن القول هنا في قدرة استعمال الذاكرة كمصدر رئيس في لملمة الفصول المتتالية للنص الروائي. كما هو الحال في اللغة الشعرية، واستخدام المفردات العامية او القريبة منها، او في الحوار ودور الابطال في كل فصل من الروايات. ولغة النص عموما اكثر انسجاما وشفافية مع موضوعه والهدف منه. كما ان خلفيات الكتاب تتطور في النصوص فيتحول السرد فيها الى ما يعكس مواقف مناهضة للاحتلال وما ارتكبه في بنية المجتمع ومرآته الابداعية. فتكون في الاخير روايات تقدم ادبا مقاوما وإبداعا متميزا في نصه وموضوعه واختياره ورسالته، يعرض نموذجا واضحا لا لبس فيه. هذا فضلا عن امكانيات ابداعية مقتدرة في اطار السرد الروائي وتنوع الاساليب الفنية وعرضها لما بعد الاحتلال.
تلخص الحفيدة الامريكية معاناة العراقي بين مغتربه وموطنه الاول، وحتى موطن ابائه. بين وطن محتل وقوة احتلاله وتبرير التخادم معها. لعبة التشويق والحبكة الروائية ماهرة في شد القارئ للنص والسياحة بين ماض وحاضر لا وفاق يربطهما ولكن ثمة حنينا يمزج بينهما، ويلهب ما يحرك من غرائز انسانية تعلو فوق واقع المشهد وتحيله الى رفض مكتوم وأمل ممتزج بقسوة وصعوبات الحياة.
زينة بهنام حفيدة عقيد في الجيش العراقي، الشخصية الرئيسية في الرواية، هاجرت مراهقة إلى أمريكا وعادت بعد الغزو الأمريكي لبغداد عام 2003 مترجمة مع قوات الاحتلال، وهي تعرف مغامرتها هذه وتحاول تبريرها. ربما بما يقنعها او ترديد ما يردد رسميا من ادارة الاحتلال امامها.
والشخصية الثانية جدة زينة، رحمة، التي بقيت في العراق، واستخدمتها الروائية لتسرد من خلالها الماضي الجميل للعراق، حيث الأمان والناس المتاحبين وأجواء بغداد اليومية وبيوت الموصل القديمة والأكلات والأمثلة الشعبية، الفولكلورية.
والشخص الثالث الرئيسي هو اخو زينة بالرضاعة، مهيمن، المقاتل في جيش المهدي ضد الاحتلال الامريكي، والذي تقع معه في حالة عشق صادم لها وله. وفي سرد يواصل الحوار الداخلي بين البطلين، تنتهي الرواية بموت الجدة وعودة البطلة الى امريكا، وبقاء خيط الحب والسرد مفتوحا وشجيا يشد القاريء له وللخاتمة التي تعيد بها البطلة او تردد ما قاله ابيها عن بغداد: ” شلت يميني إذا نسيتك يا بغداد”!. موضحة قسوة التناقض والصراع بين واقع حفيدة ومأساة اهل ومدن لا ترحم الذاكرة او الحكايات عنها.
الحفيدة الامريكية رواية متمكنة من التقاط حالة الرفض للاحتلال بسرد قادر على الاقناع بتسلسل الاحداث وحبكتها القصصية ولقطاتها السينمائية التي توصل ما وراء العنوان وما حل بالعراق بعد الاحتلال الغاشم.
اما رواية يا مريم فقد تمكن كاتبها بشكل واضح فتح كتاب حياة المسيحيين في العراق وما مر عليهم قبل وبعد الاحتلال الغربي وتدمير العراق. وتقديمها كنص سردي متمتع بالصدق الخالص، او شهادة مصدقة لأحوال شخوصها وصراعهم او ازمتهم في اوضاع متراكمة من المعاناة والمأساة وتناقض المشاعر والأحاسيس وتباين الخبرات. والمؤلف يوظف ما يرويه بنصوص طقسية لتثبت جدارة السرد الذي اختاره للرواية، مما يقدم للتاريخ سجلا واقعيا جارحا بروح وطنية وفية لموروثها ولخلاص بلادها. ومنها مثلا هذه الصلاة المرددة في التعبير عن امل وطريق للنجاة، والمتشابهة بما لدى المسلمين في العراق ايضا من ادعية وأناشيد دينية. “يا قديسة مريم، صلي لأجلنا، يا والدة الله، يا أما مصلوبة، يا أما ثكلى، يا أما مطعونة بالحربة، يا أما مصلوب قلبها، يا أما مغمومة، يا ينبوع البكاء، يا جبل الحزن، يا صخرة الثبات، يا مرسى الاتكال، يا ملجأ المتروكين، يا ترس المظلومين”!.
بطلا الرواية يوسف ومها يسردان في حوارهما الداخلي والخارجي انتماءهما إلى جيلين مختلفين. كل منهما له همومه وفهمه لما يحصل بالعراق وفي يوم الفواجع، تفجير كنيسة في بغداد، واحتدام الدم الطائفي، يتصادم البطلان بضغط وقائع موترة او تبعث على الصراع والتناقض. فترى مها ان العنف موجه أساسا ضد أبناء الديانة المسيحية، بينما يرى يوسف أنه موجه ضد الجميع. الارهاب لا يميّز بين ضحاياه وان خطط لها، ويلعب العمر والتجربة دورهما في اسلوب مشوق وفي تكثيف سرد يوم كامل من حياة شخصيات الرواية. ولعل اختيار الروائي للغة المحكية الموصلية زاد في رسم احساس شخصيات الرواية ومنحها طاقة فنية تحتاج الى تفهم خاص مرتبط ايضا بواقع حال وحياة شخوصها والعراق بعد الاحتلال.
تظل الرواية كما ورد في الغلاف ” تثير أسئلة جريئة وصعبة في وضع الأقليات في العراق الآن حيث تبحث إحدى الشخصيات عن عراق كان (يوسف) والأخرى تحاول الهروب من عراق كائن (مها)”، في اطار عمل فني متميز ومتجاوز في طرحه او اختياره.
اتسمت الروايتان بواقعية فنية وسرد وحوار مباشر وبوضوح، خلاف ما جاءت به رواية احمد السعداوي، فرنكشتاين في بغداد، “بشخوص تتجاوز الواقع، وتلتقي به وجها لوجه في آن واحد، مثيرة في رحلتها هذه قضايا الخلاص من إرث طاحن لا خلاص لأحد منه على مستوى المسؤولية الفردية والجمعية. وتتألق الرواية بسرد أخاذ وغرائبية جاذبة تستنطق النفس الإنسانية في أحلك ساعاتها. ساحة الرواية بغداد وموضوعها في آخر المطاف يتعدى هذه المدينة ليشمل الإنسان أينما وُجد”. كما كتب رئيس لجنة جائزة البوكر العربية عنها حين فوزها.
هادي العتاك، الشخصية الرئيسية في الرواية، بائع المواد المستعملة والخردة بحي شعبي وسط بغداد، يمارس صناعة لصق بقايا بشرية من ضحايا الانفجارات في ربيع 2005 ويخيطها على شكل جسد كامل، كائن جديد بروح تشبهه، سماه هادي “الشسمه”، أي الذي لا يعرف ما هو اسمه، وتابعته السلطات باسم المجرم أكس، وأطلق عليه الراوية الصحفي في الرواية اسم “فرانكشتاين”، وسجل فيه سبقا صحفيا. يقوم هذا الكائن بحملة انتقام من كل من أسهم في قتله، أو من قطع الأجزاء المكونة له، كما تخيل او خطط له صانعه. وفي هذه القصة تبرز روح الفانتازيا التي اجادها الروائي في سرده لحكاية صانع فرانكشتاين والشخصيات الاخرى التي جمعها في دوامة الجثث والدمار والتفجيرات والرعب وصراعات سكان المكان في زمان الاحتلال. مستخدما اسلوب السرد والوصف للشخصيات التي لعبت كل منها دورها في النص والتفاصيل الكثيرة والمكررة او التي حاول الكاتب بخياله تضخيم فانتازيا الشخصيات الرئيسية، لاسيما العتاك والشسمه والصحفي وتلخيص ما حصل ودار طيلة زمن الرواية، بعد الاحتلال لبغداد، وما اثمر من فوضى كارثية. اراد الروائي في سرده وأساليب عرضه تسجيل المأساة التي حلت في العراق ورفضها من خلال النتائج المعبرة عنها، ورسم فيها رؤية فنية لواقع مضحك مبك، هزلي ومأساوي، ومساهما في ادانته روائيا.
ثلاث روايات لروائيين عراقيين عاشوا محنة الاحتلال او ادركوها في ما تم في بغداد خصوصا، وسعوا لنقلها فنيا ومقاومتها بالسرد والتسجيل الفني وتثبيتها نصا للتاريخ والمشهد الثقافي الجديد بعد دمار البلاد.
كاتب عراقي

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف