يتردد سؤالان يؤكدان لدى العقل السياسي العربي تفاقم الشك في قدرة النموذج الغربي على الاستمرار في تحقيق التقدم والنمو. سؤال عن مصير الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا منه، وسؤال عن مصير الجامعة العربية في ضوء تعدد مظاهر انفراط الدولة «القومية». سبقت السؤالين تطورات أخرى مهدت لاقتناع الكثيرين بأن النموذج الغربي دخل مرحلة السقوط. نذكر كيف سيطرت الشيوعية وكانت في نظر بعض التحديثيين العرب وفي العالم النامي فرعاً من فروع الحضارة الغربية. كان الظن أنه بعد سقوط الشيوعية استحق النموذج الليبرالي الديموقراطي الرأسمالي أن يفخر بإنجازاته. وبالفعل تعدَّد المحتفون بانتصاره بل وبالغ بعضهم حتى أن أحدهم أعلن أن هذا النموذج هو الوضع الطبيعي والنهائي للوجود الإنساني. زعم مُحتف آخر أن التاريخ انتهى بانتصار النموذج. تصوروا أن المستقبل سوف يشهد تمسكاً أقوى بالدولة القومية، أحد أهم إنجازات النموذج الغربي، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، وسوف يشهد أيضاً مؤسسات قوية تحمي الدولة القومية وتعتنق عقيدة ديموقراطية ليبرالية. تنبأوا بعصر تنتشر فيه الحكومات المستقرة في أنحاء العالم كافة، حكومات تمثل الشعب تمثيلاً صادقاً وتخضع للمحاسبة وتتغير وفق انتخابات برلمانية نزيهة. ساد الاعتقاد بأنه لن يتحقق النمو في العالم النامي، أو في مختلف أنحاء العالم غير الغربي، إلا طبقاً لهذه المواصفات التي تقدم بواسطتها الغرب. بالفعل كان بعض الشواهد يدعم هذا الحلم لدى الأصوليين الليبراليين. كانت الأمم المتحدة تزداد تمثيلاً لعالمٍ بات يحوي نحو مئتي دولة «قومية». من ناحية أخرى كانت أوروبا تتكامل اقتصادياً وتتقارب سياسياً واجتماعياً داخل منظومة غربية حديثة الفكرة والمنشأ والتنظيم، بدأت بدول ست وصلت إلى ثمانية وعشرين. لم يكن هناك شك في أن التكامل الإقليمي هو إنجاز غربي يحق للأصوليين الغربيين الاحتفاء به. كان الاتحاد الأوروبي، في نشأته وتطوره، تجربة عبَّرت بحق عن درجة في سلم التقدم. وفي غمرة سعادة الغرب بانتصار النموذج الغربي، ساد الاقتناع بأن الصعود الصيني هو دليل جديد على انتصار الغرب. فالصين استخدمت آليات وعقيدة الغرب للصعود الاقتصادي، بل إن هيمنة بوتين على مرحلة الانتقال الروسي من الفوضى إلى الاستقرار كانت دليلاً آخر على اقتراب روسيا من تبني النموذج الغربي في النمو والتقدم. وصلت البشرية إلى نهاية القرن العشرين والغرب يعيش حالة انبهار بإنجازات النموذج الغربي. أطلقوا على القرن صفة القرن الأميركي، حسب تعبير هنري لوس، صاحب مجلة «لايف»، ثم لقبوه بالقرن الذي أعلن نهاية التاريخ. ساد الاعتقاد بأبدية النموذج الغربي وخاصة مع الانتقال إلى حالة العولمة، وتأكدت في معظم الكتابات عبقرية الطبقة الوسطى التي تحملت وحدها مسؤولية تحقيق هذا الانتصار العظيم. فجأة، أو هكذا يحلو للأصوليين الغربيين أن تكون بداية أي مناقشة تتعلق بظاهرة انحسار مكانة النموذج الغربي وتراجع إنجازاته. فجأة لم يعد النموذج الغربي الطريق الأمثل للتقدم، على الأقل من منظور النخب الحاكمة في الدول النامية، ثم من منظور مسؤولين غربيين بل وتيارات مهمة في شعوب غربية. اختار محللون كثيرون جريمة تفجير برجي التجارة الدولية في نيويورك في عام ٢٠٠١، النقطة التي بدأ عندها انحسار مكانة النموذج الغربي. ولكن هناك عوامل أخرى ساهمت في وقوع السقوط، أو على الأقل في انكشاف السقوط. أظن أنه لا يمكن إغفال الأخطاء الجسام التي ارتكبتها الولايات المتحدة، رأس النموذج والناطقة باسمه، في أفغانستان والعراق، بدافع أو بزعم فرض النموذج الغربي على البلدين. لم يكن هذا الزعم من دون أساس بل أيَّده منظرون وأكاديميون مثل روبرت كاغان الذي أشاع أن الحل الوحيد لوقف انحسار النموذج هو استخدام القوة المطلقة ضد الدول الصاعدة المستخدمة نماذج أخرى غير النموذج الغربي وبخاصة الدول الصاعدة بسرعة، وضد الدول الصغيرة المترددة. هكذا حلَّ الغرب مشكلته مع ألمانيا واليابان قبل أن ينتصف القرن ولا يوجد ما يمنع استخدام الحل نفسه لوقف التيار المناهض للنموذج الليبرالي الديموقراطي الغربي. أظن أن أميركا مسؤولة كذلك حين بدأت تنفذ مسلسل التراجع عن القيادة المباشرة التي تتحمل مسؤوليتها بوصفها قطباً أوحد في النظام الدولي ومسؤولة أيضاً حين فضَّلت «القيادة من الوراء». هنا استخدمت الإدارات الأميركية مناسبات كثيرة لتعكس ازدواجية المعايير والسياسات، فهي تدعم مبادئ النموذج الغربي إلى حد الزعم أحياناً بأنها تحاول فرضها بالقوة، بينما هي في الحقيقة تدعم أنظمة حكم دكتاتورية أو على الأقل أنظمة تناهض النموذج الغربي وتعتبر المطالبة به مؤامرة على استقرارها وعقبة على طريق تقدمها. قيل ويقال إن أوباما لم يكن رجل المرحلة، الزعيم الذي كان يتعيَّن عليه إنقاذ النموذج. رأينا أيضاً أوروبا تتعثر في خطواتها التكاملية وتتردد في، بل وترفض أحياناً، أن تتحمل مسؤوليات دولية تفرضها زعامتها الروحية للنموذج الغربي في ظل تراجع أميركا عن قدر غير ضئيل من واجباتها القيادية. رأيناها مقصرة في حق نفسها حين امتنعت عن تنسيق سياساتها الخارجية والظهور بمظهر القوة الدولية المقابلة لقوة الصين أو على الأقل للقوة الروسية. رأيناها وهي تصطدم بمنظومة قيم النموذج الغربي في أزمة اللاجئين وهجرة القوارب والتعامل مع التداعيات المستمرة لثورات الربيع العربي. رأيناها تنقسم فعلياً إلى أوروبا الشمال وأوروبا الجنوب وأوروبا الشرق، بينما كانت وحدتها وتوحدها أهم إنجاز يطمح إلى تحقيقه النموذج الغربي في التقدم والنمو. حدث أيضاً أن بعض أهم «أيقونات» النموذج الغربي في العالم غير الغربي، بدأت تفقد لمعانها، بل ويتهدد بعضها السقوط. المثال الأبرز هو صعود «الدين» كلاعب سياسي في منظومة مبادئ وقيم وآليات لا تتسع له، بل وتلتزم العمل على تنحيته جانباً. هكذا انحسرت مكانة النموذج الغربي قبل أن يبدأ السقوط في تركيا والهند وتايلاند وإسرائيل وميانمار وسريلانكا وروسيا البوتينية. في كل هذه البلاد التي جربت النموذج الغربي وقطعت فيه وبه أشواطاً، عاد «الدين» يسيطر ويؤثر في القرار السياسي والاقتصادي ويتدخل لتغيير طبيعة النموذج الغربي وفعاليته. يشار هنا إلى أنه في كل الحالات لم يقدم النموذج البديل الناجح للتقدم، أو على الأقل لم يثبت حملة رايات الدين السياسي أنهم أهل للتعامل مع تعقيدات التكنولوجيا الحديثة ومع فكرة الدولة القومية. قرأتُ، أو لعلني سمعت من يتهم الطبقة الوسطى في كثير من الدول النامية التي أخذت بالنموذج الغربي أو ببعض ملامحه، بالخيانة مع أنها هي الأساس التليد لذلك النموذج. نرى أفرادها من المثقفين والأكاديميين والتجار ورجال الأعمال يهرعون إلى إرضاء حكومات تناهض معظم مبادئ النموذج الغربي. يعرف أبناء الطبقة الوسطى أنه من دونهم لن يقوم في بلادهم نموذج غربي أو شبيه به، أو، وهو الأهم؛ لن يقوم مشروع حضاري ولن ينفذ برنامج جاد وحقيقي للتقدم. يعرفون أيضاً أن دعمهم لأنظمة تستخدم أساليب انتقائية أو أدوات بيروقراطية جزئية بادعاء أنها تُستخدم في دول الغرب، هذا الدعم يثمر وقتاً ضائعاً وأموالاً مهدرة وطاقات مبددة مهما خلُصَت النيات. من دون الطبقة الوسطى لن تتحقق الديموقراطية وبالتالي لن يتحقق الاستقرار السياسي ويتعود الناس عملية الانتقال السلمي للسلطة، التي هي من أهم معالم التقدم المنشود. خانت الطبقة الوسطى نفسها حين استخدمت الدين وسيلة لتحقيق مصالحها وللقفز على السلطة بأقصر الطرق في نظرها، وكان ثمن خيانتها فادحاً منذ أن صارت هي نفسها وفي دول بعينها مفرخة للإرهاب. خانت عهودها كذلك عندما تحول بعض أفرادها وقطاعاتها لدعم حكومات مستبدة وسياسات عنيفة وتشجيع تدخل الدولة في كل شأن من شؤون المواطنين. أعود إلى السؤالين المترددين بكثرة هذه الأيام عن مستقبل الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية. السؤالان مرتبط أحدهما بالآخر كلَّ الارتباط، ليس فقط لأن المنظمتين وليدتا نموذج واحد، هو النموذج الغربي، ولكن أيضاً لأن هذا النموذج في حد ذاته مهدد بالسقوط، وأنه لا بديل حتى الآن من المؤسستين يُرضي توقعات المستقبل لدى غالبية واضحة وقاطعة للناس في كلا الإقليمين، أوروبا والشرق الأوسط. هذا في حد ذاته دليل أخير على انحسار النموذج الغربي هنا، وهناك كذلك. عن "الحياة" اللندنية

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف