تقطع الدلائل جميعها بأن تغييراً عميقاً يجري، منذ فترة، في المجتمع الأميركي، وفي المزاج الشعبي العام فيه، وعلى نحو غير مسبوق في تاريخ ذلك المجتمع، على الأقل منذ بداية تحرره من عنصريته السابقة تجاه السود الأميركيين من ذوي الأصول الإفريقية، تحت وطأة نضالهم الطويل ضد تلك العنصرية، ومن أجل حيازة الحقوق المدنية (حقوق المواطنة الكاملة) أسوة بالمواطنين البيض، وبمواطني الولايات المتحدة كافة. وكما لم يكن ذلك التغير، الذي وضع حداً للعنصرية، بعيداً عن السياسة، كذلك التغير الذي تبدو علائمه، اليوم، ليس ببعيد عن السياسة ودورها في التأسيس له. وهذه بعض العلامات الناطقة بذلك التي نرى فيها تغيراً في المجتمع والمزاج ومنظومة القيم الأميركية.
أول تلك العلامات أطل، قبل ثمانية أعوام، بمناسبة انتخاب أول أميركي أسود (أو خلاسي) من أصول إفريقية وهو الرئيس الحالي (الذي توشك ولايته على الانتهاء) باراك أوباما. لم يكن مألوفاً، في التاريخ السياسي الأميركي، أن يحظى مواطن من غير ذوي البشرة البيضاء برضا السواد الأعظم من الناخبين الأميركيين، أو قل إن ذلك إذا أصبح ممكناً - بعد منتصف الستينات - بالنسبة إلى النواب والشيوخ السود في الكونغرس، فهو ما كان يعد أمراً مقبولاً بالنسبة إلى أرفع منصب في الدولة، وهو رئاسة البيت الأبيض. وغير خاف أن ذلك الامتناع الطويل - عن انتخاب رئيس غير أبيض-سببه ثقافة أميركية (أوروبية المصدر) مسكونة بنزعات التفوق (تفوق الرجل الأبيض)، والعنصرية تجاه السود والملونين. وتعظم دلالة ذلك التحول الذي مثله انتخاب أوباما للرئاسة حين نأخذ في الحسبان أن الرجل ليس من السود، ومن أصل إفريقي فحسب، بل هو ابن لأب مسلم (حسين أوباما) أيضاً. وفي غض الطرف الأميركي العام عن هذين الأصلين (الإفريقي والمسلم)، ما يشهد بأن شيئاً جديداً بدأ يتخلق في أحشاء منظومة القيم، في المجتمع الأميركي، منذ مطلع هذا القرن، وأن التصويت أتى ليعبر عنه رسمياً (في«الحزب الديمقراطي»، الذي اختار أوباما، كما في المجتمع الأميركي برمته)، ولم يأت اعتباطاً أو صدفة.
وثاني العلامات التصويت الديمقراطي الكثيف، في الولايات، لصالح المرشحة هيلاري كلينتون في الانتخابات التمهيدية، واحتمالات فوزها بمنصب الرئاسة (إن حصل انشقاق فعلي في «الحزب الجمهوري» وحجب قسماً من أصواته عن المرشح الخلافي دونالد ترامب). ولقد يقال إن لصعود أسهم السيدة كلينتون في المنافسة على الرئاسة ما يفسره، لأنها عضوة في الكونغرس الأميركي، ووزيرة للخارجية سابقاً، ناهيك أنها معروفة للأميركيين كقرينة للرئيس الأسبق بيل كلينتون، وناشطة مدافعة عن حقوق النساء.. إلخ. وهذه جميعها لا تكفيها، لكي تتبوأ هذا المركز الاستفتائي الذي نالته اليوم. ودليل ذلك أن المجتمع الأميركي يعد مجتمعاً محافظاً، لا يمنح المرأة المكانة عينها التي يمنحها للرجل في تقلد المسؤوليات العامة. إنه يقبل أن تكون عضوة في الكونغرس (وهذه، أيضاً، ظاهرة حديثة في الزمن)، وربما زعيمة لفريق النواب فيه (السيدة نانسي بيلوسي بالنسبة إلى «الحزب الديمقراطي»)، ويقبل أن تكون وزيرة للخارجية ( مادلين أولبرايت، هيلاري كلينتون)، أو الخارجية والعضوية في «مجلس الأمن القومي» (كونداليزا رايس).. إلخ، ولكن منصب الرئاسة أعلى - في النظرة الأميركية العامة - من قامة امرأة ! إن الثقافة الذكورية المحافظة، السائدة في المجتمع الأميركي، والمتولدة من التأثيرات البالغة للتربية الثقافية الدينية الإنجيلية، لم تكن تسمح بأن يقوم الأميركيون بتولية المرأة على شؤونهم، ولكن
ها هو يبدو أن تلك الروابط التقليدية توشك أن تنحل، اليوم، مع الصعود المفاجئ لأسهم السيدة كلينتون في المنافسات.
وثالث العلامات تتثمل في خروج المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، عن الأعراف السياسية الأميركية العامة، وعن قواعد المؤسسة الحزبية (الجمهورية)، وإجباره الأعراف والمؤسسة معاً على التعايش مع ظاهرته الشاذة. إن مواقفه المتطرفة والعنصرية قد لا تكون جديدة على المجتمع السياسي الأميركي، الذي ألف مثلها عند آخرين، منهم: جورج بوش الابن وزمرته الحاكمة من صقور المحافظين الجدد، ولكن أحداً من متطرفي النظام الأميركي لم تبلغ به صفاقته حد الإفصاح عن مواقف نازية لم يكن المزاج الأميركي العام ليقبل بها قبل سنوات خلت. وليست المشكلة في أن النخبة السياسية الأميركية أنجبت مرشحاً نازي الهوى، إنما المشكلة في أن الأميركيين يصوتون لصالحه ضد منافسيه الجمهوريين، وهو ما يعني أن تغيراً هائلاً طرأ على منظومة القيم السياسية في المجتمع، وإلى ذلك فرض ترامب نفسه أمراً واقعاً على «الحزب الجمهوري»، دون أن يدعمه الأخير أو يمول حملاته الانتخابية. ولأول مرة لن تشترك المؤسسة في صناعة رئيس أو مرشح للرئاسة، بل سيصنع هذا نفسه، فيمول صعوده بموارده المالية الخاصة. وهكذا تنتج أميركا، اليوم، ظاهرة سياسية جديدة كسرت الأعراف والقواعد كافة.. مرشح متمرد على الثقافة السياسية السائدة، وعلى المؤسسة الحزبية في آن، وبدل لفظه، تنحنيان له بكل طواعية.
كيف أمكن لمثل هذا التغير المذهل أن يقع في المجتمع الأميركي، ومزاجه، ومنظومة قيمه، واتجاهات الرأي العام فيه؟!
إن معرفة أسباب هذه التغيرات وعواملها ترد إلى الحقبة السياسية التي مرت بها الولايات المتحدة الأميركية في العقد الأول من القرن الحالي إبان صعود المحافظين الجدد وسيطرتهم على السلطة فيها لولايتين. إن هذه الحقبة العجفاء، حقبة الحروب المجنونة، والانهيار الاقتصادي والإفلاس المالي، أتت على المجتمع ومنظومة القيم بتأثيرات بالغة دفعته في اتجاهين نقيضين: اتجاه التحرر من العنصرية والنظرة الذكورية المحافظة، وفتح ميدان السياسة لجميع الفئات والأقليات. واتجاه التحرر. ومعنى ذلك أن المجتمع الأميركي دخل مرحلة من الاستقطاب الداخلي الحاد ولا يعرف أحد إلى أين ستنتهي به!

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف