أحد المقاطع الكلاسيكية في «حقيبة الاكاذيب» لدان بن آموتس وحاييم حيفر، يتحدث عن عوفر، الذي دخل في يوم ما الى مطعم. «ماذا يوجد لديك؟»، سأل النادلة. «قدم مصابة»، أجابته. «مشكلاتك لا تعنيني»، قال لها. هذا هو الواقع في كل ما يتعلق بوسائل الاعلام: مشكلاتنا تهم عددا قليلا من الاشخاص، ممن لا يعتاشون منها أو تعتاش منهم. من يؤمن أنه ستنشأ في اسرائيل في يوم ما حركة احتجاجية ترفع شعار حرية الصحافة، يحلم. ثمن جبن الكوتج نعم، استقلالية وسائل الاعلام، لا. وبشكل عام، الاسرائيليون على قناعة بأنهم يحصلون على المعلومات الكافية من وسائل الاعلام الموجودة، وهذه قد تكون معلومات زيادة على اللزوم. إنهم على قناعة بأن الحديث يدور عن أجسام قوية، ناجحة، تنشغل بنفسها ومتعجرفة. وهذا هو ايضا المظهر الذي تبثه وسائل الاعلام: كلما كانت الضائقة أكبر كان الماكياج أكثر. المظهر هو جزء من الـ دي.ان.ايه. تتمتع وسائل الاعلام في اسرائيل في الوقت الحالي بحرية كبيرة، رغم أن حرية التعبير غير محمية بالقانون، ورغم أن القانون لا يمنح الصحف حقوقا معينة ولا حتى حق المطالبة بالحصول على المعلومات – بوابات الاجهزة العامة مفتوحة، وما لا يتدفق بشكل طبيعي يتم تسريبه آجلا أم عاجلا. وخلافا لدول اخرى، الصحافيون في اسرائيل لا يتم سجنهم بسبب رفضهم الكشف عن مصادرهم. قواعد لعب غير مكتوبة وقرارات محكمة العدل العليا تدافع عن حريتهم في العمل. والصحافي الذي يكشف عن عورة السلطة يحظى بالمجد، واحيانا يحصل على جائزة من المؤسسة. و»الشاباك» لا يطارده. بكلمات اخرى، الشمعة مشتعلة ونورها كبير. وهو لافت للانتباه، ويمكن النظر الى الشمعة بقلق، هذه هي طبيعة الشموع: نورها يزداد قبل انطفائها. نظرة اخرى تكشف علامات الفساد. وسائل الاعلام المهنية – ثلاث صحف يومية واليوميات الاقتصادية التي تتعلق بها وثلاث قنوات تلفاز – أصبحت ضعيفة اقتصاديا. فهي تقوم باقالة الموظفين (محطات الراديو هي قصة منفصلة، هناك محطتان رسميتان تتعرضان للقصف، ومحطات محلية تجارية). مواقع الانترنت تقوم باضعاف وسائل الاعلام القديمة، لكن الصحافة هي فقط جزء من النموذج الاقتصادي لها. الشبكات الاجتماعية تعطي المعلومات، ولكنها احيانا تكون منحازة وهامشية وكاذبة. وقد تحولت الى أداة عمياء وخطيرة في أيدٍ غير أمينة. هذه الامور تضر بوسائل الاعلام القديمة في العالم الغربي عامة، حيث يتم اغلاق صحف أو تنتقل الى ملكية الطغم المالية التي لا تعنى بثقافة الجمهور. وهم يشترون وسائل الاعلام لابتزاز الحكومة من خلالها ومن اجل مصالحهم الاقتصادية أو من اجل غسل أدمغة القراء. واحيانا يقومون بشراء وسيلة اعلام كدمية للكبار. وقد لعب مايكل جاكسون بالدمى وزعران الهاي تيك يلعبون بالصحف. القصة الاسرائيلية مشابهة ومختلفة في الوقت ذاته. والفرق يتركز في الشخصية المعقدة لبنيامين نتنياهو، وزير الاعلام ورئيس الحكومة. وسائل الاعلام تشكل الهوس الخاص به: أكثر من القنبلة الايرانية، أكثر من صواريخ نصر الله، أكثر من «حماس» بل أكثر من اوباما. أحيانا يكون هذا الأمر مسليا واحيانا يكون مقلقا. ليست هناك صلة بين حجم التهديد وبين شدة الرد. نتنياهو يعيش في فقاعة تخصه. لنفرض أننا سنتحول في يوم ما الى تركيا اردوغان، وكل الموظفين والموظفات في «يديعوت»، من المحررين والمراسلين والطابعين وموظفي الادارة وسائقي الشاحنات ومن يغسلون الصحون في المقصف – جميعهم يقفون أمام كتيبة اعدام حيث يتم اعدامهم، فهل سيجد نتنياهو الهدوء؟ هل الاصوات التي تزعجه يوميا، التحقيقات في الشرطة وتدفق الاموال ومشكلات العائلة ومطالب الوزراء والازمات الائتلافية، ستختفي؟. هناك شك كبير. فقبل ايام وخلال جولة له شعر نتنياهو بحاجته الى أن يقول لعدسات الكاميرا لماذا قرر كوزير للاعلام أن يخنق اتحاد البث الجماهيري قبل ولادته القانونية بثلاثة أشهر. «اولئك الذين يتحدثون عن حرية الصحافة»، قال، «لا يتناسب ذلك مع جهودهم لاغلاق صحيفة اسرائيل اليوم». بالطبع هذا كذب: لم يحاول أحد اغلاق الصحيفة، وكل ما طلبه اعضاء الكنيست منه هو العمل حسب مبادئ المنافسة التي توجد في السوق الحرة وأخذ الثمن ولو بشكل رمزي. نتنياهو هو فارس السوق الحرة الى أن يصل الامر اليه، الى جيبه أو الى غضبه. اتحاد البث الجماهيري بعيد عن أن يكون مكتملا. فولادته توجد فيها رائحة عفنة صدرت عن هيئة البث القديمة، لا سيما ذراعها التلفزيونية. وما تم نشره حتى الآن في «يديعوت» والقناة الـ 10 هو طرف جبل الجليد. إن نية جلعاد اردان، الذي أيد الفكرة عندما كان وزيرا للاعلام، كانت حسنة. ولكن في الحكومة مثلما في الحكومة، كانت العملية مليئة بالمتفجرات، والمديرون الذين تم تعيينهم داسوا على معظمها، والعمال الذين كانوا سيقالون جندوا لمساعدة رئيس الهستدروت الذي يخشى من الاقالة في الانتخابات، والأهم من كل ذلك هو أن نتنياهو اكتشف أن الاتحاد جند عددا من الصحافيين الحقيقيين ممن لهم أسنان من اجل خدمته. نتنياهو قال بينه وبين نفسه، ما حاجتي الى ذلك، وقرر اغلاق البسطة. الخطوة الثانية كانت العطاء المتعلق بتشغيل قناة الكنيست. نتنياهو يريد تغيير شروط العطاء لضمان اختيار شركة تكون بملكية أحد المقربين، وتكون خاضعة له. وهكذا ستنضم هذه القناة الى مجموعة قنوات اخرى والصحافة المكتوبة والتلفاز والانترنت التي يمسك نتنياهو بخيوطها. لقد رأيت عددا من الظواهر الغريبة في وسائل الاعلام منذ قيام الدولة، لكن شيئا كهذا لم يسبق لي أن رأيته. للأسف الشديد، تتصارع وسائل الاعلام فيما بينها وهي مدمنة على حسابات الماضي بين مالك ومالك وبين محرر ومحرر وبين مراسل ومراسل. ومدمنة على المنافسة الحقيقية أو المزيفة. بعض السحر المهني هو التشويش بين المهم والهامشي. واحيانا ما يبدو أنه عنوان رئيسي يتحول الى خبر هامشي في اخبار نشرة المساء. التاريخي يلتقي مع الهستيري، مصالح الجمهور مع مصالح اللهو، والأنا مع الأنا. وهكذا ايضا في حروب الصحافيين: الصراعات الداخلية تؤثر على الصراع الحقيقي، والصراع من اجل تحقيق حقوقنا وواجبنا تجاه توعية الجمهور. لقد دخل نتنياهو الى هذا الملف بشكل فظ. وهناك طريقتان لقمع حرية المعلومات، طريقة اردوغان وطريقة برلسكوني. فاردوغان يسيطر بقوة الدولة على وسائل الاعلام ويمنع الحصول على المعلومات. وبرلسكوني يقوم بفتح وسائل الاعلام وعشرات المحطات التافهة التي لا تبث أي شيء ذي قيمة، وهو يسمي ذلك منافسة حرة. توجد لي صديقة عادة منذ فترة قصيرة من ايطاليا قالت لي: «قمت باشعال التلفاز ووجدت أن هناك 42 محطة ايطالية، وفيها كلها يمكن مشاهدة سيقان النساء، الكثير من السيقان». يسير نتنياهو حسب الطريقتين في الوقت ذاته، طريقة اردوغان وطريقة برلسكوني. فهو مهووس الى هذا الحد.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف