قبل فترة وجيزة نشرت اللجنة الرباعية لشؤون الشرق الأوسط تقريرا يركز على العوائق الأساسية التي تمنع تحقيق اتفاق سلام اسرائيلي – فلسطيني من خلال المفاوضات، ويعرض توصيات لتحقيق حل الدولتين. ورغم أن التقرير يشير صراحة إلى انه لا يمكن تحقيق الحل الدائم الا بوساطة المفاوضات المباشرة بين الطرفين فانه جاء ليشدد على المجالات التي يمكن فيها تحقيق تقدم في اتجاه حل الدولتين حتى في غياب مسيرة سياسية.
اللجنة الرباعية، التي حظيت بتأييد مجلس الامن في الامم المتحدة في 2002 (قرار مجلس الأمن رقم 1435)، سعت إلى اعطاء زخم جديد للمحادثات بين اسرائيل والفلسطينيين من خلال ضم ثلاثة لاعبين حيويين لاستكمال الوساطة الأميركية: الاتحاد الاوروبي، الامم المتحدة وروسيا.
وقد نجحت هذه اللجنة حتى اليوم في ان تسهم بمساهمتين جديرتين بالاشارة في علاقات اسرائيل والفلسطينيين: الاولى هي خريطة الطريق (التي تبناها مجلس الامن بقرار 1515 في تشرين الثاني 2003)، والثانية هي المطالب الثلاثة التي حددت كشرط مسبق للحوار مع «حماس»، في اعقاب انتصار المنظمة في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في العام 2006 (والتي هي الالتزام بالامتناع عن العنف، الاعتراف باسرائيل، وقبول الاتفاقات السابقة بين اسرائيل وم.ت.ف بما يرافقها من التزامات).
يعكس التقرير الذي نشرته الرباعية التقدير بأن الوضع الحالي يشجع التطرف والتشدد، ما يؤدي إلى عدم الاستقرار والى دائرة متسعة من العنف.
وبناء على ذلك، يركز التقرير على خطوات عملية وفورية ينبغي تطبيقها من أجل «تحويل الميول الحالية والدفع الى الامام بحل الدولتين على الارض».
ولهذا الغرض يشخص التقرير ثلاثة ميول مركزية تقوض احتمالات السلام: الاول هو استمرار العنف، هجمات الارهاب ضد المدنيين والتحريض على العنف. في هذا السياق جرى استعراض متوازن، يتناول 250 هجوما «ارهابيا» ومحاولة القيام بعملية نفذت في الاشهر الاخيرة من قبل فلسطينيين ضد اسرائيل.
ويشير التقرير إلى أن الفلسطينيين الذين ينفذون هجمات «ارهابية» يحظون في احيان كثيرة بتعاطف عام، وأن الشبكات الاجتماعية تشكل وسيلة لنشر التحريض والعنف، واعضاء «فتح» يؤيدون علنا الهجمات والمنفذين.
كما يشير التقرير إلى أنه بينما أعربت قيادة السلطة الفلسطينية عن معارضتها للعنف، فان الزعماء الفلسطينيين لا يشجبون بوضوح وثبات الهجمات «الارهابية»، وتسمى الشوارع والميادين والمدارس على أسماء منفذي العمليات «الارهابية».
وبالتوازي ينتقد التقرير المتطرفين في الجانب الاسرائيلي ومنفذي عمليات «تدفيع الثمن»، كما ينتقد التحريض الاسرائيلي في بعض من الشبكات الاجتماعية وحقيقة أن محافل رسمية في اسرائيل اعربت عن تأييدها لاستخدام القوة الفتاكة ضد المهاجمين الفلسطينيين.
يعنى الميل الثاني بتوسيع المستوطنات، تخصيص الاراضي ومنع التنمية الفلسطينية، والتي يربطها التقرير معا بصفتها تعكس سياسة منظمة من جانب اسرائيل.
في هذا السياق، يشير التقرير إلى أن السياسة الاسرائيلية المستمرة في هذه المسائل تطرح اسئلة حول نواياها على المدى البعيد، ولا سيما في ضوء تصريحات بعض الوزراء في اسرائيل بأنه محظور أن تقوم دولة فلسطينية.
وينتقد التقرير بخاصة تخصيص أكثر من 70 في المئة من الارض في المناطق ج للاستخدام الاسرائيلي الحصري، حيث إن الـ 30 في المئة تقريباً المتبقية ليست عمليا في متناول التنمية الفلسطينية.
وللتشديد على هذه النقطة، يفصل التقرير بأنه بين الاعوام 2009 و2013، من اصل اكثر من 2.000 طلب للتنمية الفلسطينية في المنطقة ج، اقر 34 ترخيص بناء فقط، وهو سقف يترك الفلسطينيين عمليا مع «غير كثير من الخيارات سوى البناء بلا ترخيص». ويشير التقرير إلى أن المستوطنات تبنى وتوسع بشكل لا يتوقف.
وفي هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أن التقرير يثبت سابقة في أنه يتناول بشكل محدد عدد المستوطنين الذين يسكنون «عميقا داخل الضفة الغربية»، القول الكفيل بأن يلمح بمزيد من التشديد على هذه المستوطنات.
أما الميل الاشكالي الثالث الذي يذكره التقرير فهو الوضع في قطاع غزة، في ضوء تراكم السلاح غير القانوني والنشاط العسكري، الى جانب الوضع الانساني المتفاقم في القطاع وعدم تحقق الوحدة الفلسطينية.
ينتهي التقرير بعشر توصيات للسياسة، لا يتناول أي منها معايير الاتفاق المحتمل أو الصياغات السياسية السابقة التي طرحت لحل النزاع.
من حيث المضمون يمكن توزيع التوصيات العشر إلى ثلاث مجموعات: المجموعة الاولى (وفيها أربع توصيات) تتناول الطرفين وتدعو إلى تخفيض التوتر، منع العنف، احترام وقف النار في غزة وتعزيز اجواء التسامح ومقاومة التطرف.
اما المجموعة الثانية (وفيها ثلاث توصيات) فتتناول النشاط الفلسطيني وتعنى بوقف التحريض على العنف، تحسين قدرة الحكم الفلسطيني وتعزيز المؤسسات، وكذا توحيد غزة والضفة الغربية تحت قيادة فلسطينية واحدة على اساس برنامج م.ت.ف ومبادئ «الرباعية».
اما المجموعة الثالثة (وفيها ثلاث توصيات) فتركز على الجانب الاسرائيلي وتتناول وقف النشاط الاستيطاني، تطبيق تغييرات سياسية مهمة وعلى رأسها نقل القوات والمسؤولية في المناطق ج وتسريع ازالة القيود التي فرضت على غزة في ظل النظر في حاجة اسرائيل «للدفاع عن مواطنيها من هجمات الارهاب».
رغم الانتقاد الذي يوجهه التقرير لاسرائيل، فإنه يتضمن ثلاثة عناصر مركزية ايجابية من زاوية نظر اسرائيلية: الاول، يؤطر التقرير النزاع كنزاع سياسي، يتحمل فيه الطرفان مسؤولية متساوية عن الوضع.
بهذا الفهم، فان التقرير هو تغيير منعش مقارنة بالنهج السائد في تقارير، وثائق، وقرارات محافل دولية اخرى، تؤطر النزاع كمسألة حقوق انسان، اسرائيل فيها هي قوة احتلال تنتهك عن قصد حقوق انسان اساسية للضحايا الفلسطينيين.
ثانيا، يشير التقرير بوضوح إلى مشكلة التحريض الفلسطيني كممارسة جديرة بتناول ثقيل الوزن.
اضافة الى ذلك، فهو يتناول بشكل محدد كل الهجمات التي نفذها الفلسطينيون في الاشهر الاخيرة، يسميها «هجمات ارهابية» ويلقي المسؤولية على السلطة الفلسطينية في أنها لم تشجب اعمال العنف هذه، بل بقدر ما ايدتها.
ثالثا، يشير التقرير صراحة الى ان الاتفاق الدائم الذي يضع حدا للنزاع لن يتحقق الا بوساطة المفاوضات المباشرة بين الطرفين وليس من خلال اعمال من طرف واحد.
وهكذا امتنع التقرير عن ان يعبر، صراحة ام بشكل مبطن، عن موقف يقضي بأن تؤيد الاسرة الدولية الاستراتيجية الحالية للفلسطينيين لتدويل النزاع او أن يكون مثل هذا النهج كفيلا بأن يعطي ثمارا.
لقد أعرب الطرفان عن استيائهما من مضمون التقرير. واستند الانتقاد الاسرائيلي الرسمي إلى الادعاء بأن النشاط الاستيطاني ليس عائقا في وجه السلام، بل الفلسطينيون هم الذين يرفضون التقرير.
وفي هذا السياق، دعت القيادات الفلسطينية علنا مجلس الامن في الامم المتحدة الى رفض التقرير، وفي محادثات خاصة ألمحت الى انها لن تتعاون مع «الرباعية» كلجنة، وبدلا من ذلك ستعمل مع كل واحد من اطرف «الرباعية» كل على حده.
في نظرة الى المستقبل، فان مدى تأثير وحضور التقرير لا يزال غير معروف. احتمال واحد هو أن يوضع التقرير في الجارور، مثل العديد من المبادرات، الوثائق، الخطط والقرارات المتعلقة بالنزاع طويل السنين.
ثمة امكانية اخرى هي أن تشكل الوثيقة في المستقبل نقطة انطلاق للاسرة الدولية اثناء مباحثات او مفاوضات في موضوع النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني. ومهما يكن من امر، يؤشر التقرير الى يأس واضح في اوساط الاسرة الدولية من الامكانية الحقيقية للوصول الى حل دائم للنزاع في الظروف القائمة، وبالتالي الى رغبة في صرف التركيز نحو المستوى البرغماتي والآني.
من ناحية الرباعية، التشديد هو، إذاً، على الحاجة العاجلة ليتخذ الطرفان خطوات عملية في المدى الفوري، وذلك من أجل الحفاظ على حل الدولتين واردا.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف