- الكاتب/ة : شلومو زاند*
- تصنيف المقال : بالعبري
- تاريخ المقال : 2016-08-13
نشهد في الأشهر الاخيرة شلالاً من المقالات وهتافات النجدة من كل انواع المثقفين من اليسار الليبرالي، ممن يصرخون بأن الفاشية تهدد إسرائيل. ويدعي بعضهم بأن هذه باتت هنا حقا، فيما يحذر قسم آخر من أنها توشك على المجيء. ومقابلهم يقف آخرون، هم أقل يسارا وأقل ليبرالية بقليل، ممن يدعون بان لا أساس لهذا من الصحة. فاسرائيل هي ديمقراطية مستقرة، من أجل أن تدافع عن نفسها في وجه «الارهاب» والتهديدات الاقليمية تخرج هنا وهناك عن السلوك السلطوي المتسامح، وتنفذ أعمالا غير انسانية. وكانت دول ديمقراطية تصرفت بشكل مشابه في فترات المواجهات. ففي فترة الحرب الباردة انتشرت في الولايات المتحدة المكارثية، وأكلت كل قطعة طيبة في الديمقراطية الليبرالية المستقرة في العالم. وفي زمن حرب الجزائر طبقت حكومة فرنسا سياسة جد غير متسامحة تجاه مؤيدي الاستقلال الجزائري (أقيل محاضرون ومعلمون)، ناهيك عن السياسة الوحشية تجاه المقاتلين من أجل الاستقلال. في 17 تشرين الاول 1961 قتلت شرطة فرنسا في قلب باريس بين 100 و 200 متظاهر عربي غير عنيفين، تقريبا بلا أي رد فعل إعلامي. من الصعب أن نتخيل اليوم حدثا مشابها في تل أبيب. ينبغي العودة للتشديد على ان الاستعارة هي أم الحكمة الانسانية. وفي الوقت ذاته فان الاستعارة هي أيضا ام كل الغباء الانساني. فلا يوجد علم بلا بعد استعاري؛ لا سياسة جماهيرية بلا استعارات تبسيطية، وفي الغالب تحريضية. المشكلة هي ان كل أنواع الباحثين في العلوم السياسية، في علم الاجتماع وفي التاريخ، يجرون بثقة علمية استعارات تاريخية عديمة الاساس. كانت الفاشية في ايطاليا ظاهرة لمرة واحدة؛ تقريبا مثل كل حدث آخر في التاريخ؛ حتى لو وجد كثيرون في دول اوروبية، يحاولون محاكاتها بلا نجاح. في الدول الديمقراطية، التي اجتازت ثورات اجتماعية وقومية ناجحة، وكان مبدأ سيادة الشعب مستقرا فيها، فان الخيار الفاشي يبقى هامشيا وسخيفا. في فرنسا، في بريطانيا، وفي الولايات المتحدة فشلت الحركات الفاشية تماما، ولم تكن ثمة حاجة لها (نظام فيشي اللاسامي لم يكن فاشيا). وحتى في اسبانيا سحق فرانكو الكتائب الفاشية بلا أي مشكلة. صحيح أنه في مكان واحد فقط نمت حركة ذكرت بجوانب عديدة الفاشية الايطالية. فالقومية الاشتراكية، وان لم تكن ترى نفسها ابداً فاشية، إلا ان اليسار بين الحربين أصر على تعريفها كذلك، وخلف هذه التقاليد الفكرية للاجيال التالية. ثمة جوانب مشابهة بارزة بين الحركتين والنظامين لا ينبغي تجاهلها: الحل المفروض الذي اتبعاه في مجال العلاقات بين رأس المال والعمل، شكل الدولة في السياسة، الجانب الامبريالي الفظ وعديم الكوابح وغيرها. وبالفعل، فان اليسار الالماني بكل أجنحته تعامل مع النازية كصيغة فاشية محلية ولشدة الاسف أبدى نحوها عدم اكتراث نسبي. ولكن اذا كانت القومية المتطرفة مادة الوقود الاهم التي غذت سواء الفاشية أم النازية، فان الاختلاف بين الظاهرتين حاسم. فالقومية الفاشية وان كانت عنيفة وعدوانية، ولكنها مشتملة وسياسية، وأشبهت من نواح عديدة اليعقوبانية الفرنسية. اما القومية النازية فقد كانت منذ بداية طريقها مركزة على الذات الاثنية وحصرية. والفرق بين الاثنتين لم يكن ايديولوجيا بل ترجم الى ممارسة مختلفة تماماً. فالإبادة الجماعية لليهود، الغجر، السلافيين والمرضى العقليين كانت مغروسة في قلب المشروع المركز على الذات الاثنية المميزة. فلو كانت النازية الألمانية مماثلة للفاشية الايطالية من ناحية قومية أو تشبهها، لما أصبحت أحد رموز الشر في التاريخ الحديث. لا، لم يكن الالمان اسوأ أو أفضل من الشعوب الاخرى. فعبثية الشر لحنه أرنيدت هي تمييز لامع، صيع منذ القرن الثامن عشر من قبل جان جاك روسو وان كان بكلمات اخرى. ومثلما ثمة عبثية شر هكذا ايضا توجد عبثية خير. والاثنتان متعلقتان بالظروف التاريخية، وقد عرفت أرنيدت ذلك جيدا. ومع انها لم تكن دوما منهاجية في تمييزاتها ولكنها من القليلين الذين تعمقوا في البحث في ايديولوجيات القرن العشرين على اساس التاريخ وليس على أساس جواهر انثروبولوجية. قلة في جيلها ربطوا مثلها، بحدس على هذا القدر من الحدة، بين الامبريالية، الشمولية، والقومية الحديثة. ان عبثية الشر تميز التذرية والاغتراب في العالم الحديث، ولكنها تتحقق في ظروف محددة. ومن أجل فهم ذلك لا حاجة لدراسة الكولونيالية البلجيكية؛ يكفي قراءة جوزيف كونراد. فلا حاجة ليكون المرء خبيرا في تاريخ الاتحاد السوفييتي، يكفي الاطلاع على كتب سولجينتسين. لا حاجة ليكون المرء خبيرا في النازية، يكفي قراءة بريمو ليفي. وحتى لو فهم نوربرت الياس على نحو جيد بان احتكار الدولة للعنف يلطف العلاقات الفردية الاجتماعية الداخلية، فانه ما كان على علم كاف بان الدولة تجمع وتوجه العنف «الى الخارج»، تجاه الجماعات الغريبة الاخرى – سكان المستعمرات او أعداء الثورة او أولئك الذين ينتمون الى قومية أو «عرق». فهل تتدهور اسرائيل الى الفاشية أم بدأت تشبه دولة الشر؟ هذا السؤال ليس جديا. فحتى لو ظهرت هنا وهناك حالات مس بحرية التعبير، وحتى لو بات التركيز على الذات الاثنية اليهودية ظاهرا في كل يوم، فظا ومنفرا اكثر، فهو ليس فاشية، واسرائيل ليست دولة شر أكثر مما كانت في الماضي. فهل في حرب 1948 كانت حالات مس بالابرياء غير اليهود اقل مما هي اليوم؟ هل الجريمة الفظيعة لـ 47 من سكان كفر قاسم في العام 1956 وقعت تحت حكم اليمين؟ هل مواقف المجموعات السكانية التي لا تريد ان تستقبل داخلها العرب تختلف جدا عن مواقف الكيبوتسات، التي منذ بداية الاستيطان الصهيوني رفضت ان تقبل ولو عربيا واحدا؟ وهل اليسار الصهيوني الذي اقام الدولة، واضطر حسب قرار الأمم المتحدة منح المواطنة المتساوية لمن احتلهم من العرب في العام 1948، لم يفرض عليهم على مدى 18 سنة حكما عسكريا، الغى عمليا المساواة المدنية؟ وهل يمكن ان نشبه بجدية أعمال المس بالتعددية الليبرالية اليوم بالمجال الضيق للتعددية والتسامح تحت حكم دافيد بن غوريون في الخمسينيات؟ هل سلوك اليسار الصهيوني في هضبة الجولان يختلف مبدئيا عن سلوك اليمين الصهيوني في الضفة؟ وهل حقا يختلف اليئور أزاريا عن ابراهام شالوم، رئيس المخابرات «المبايي» الذي اصدر أمرا بقتل فلسطينيين جريحين ومحيدين بالدم البارد في قضية خط 300؟ ليس عندي أجوبة لا تقبل التأويل على وجهين لبعض من هذه الأسئة وغيرها. وكما أسلفنا، فان كل استعارة في مجال التاريخ السياسي وان كانت ضرورية، إلا أنها في الوقت نفسه تافهة وعليلة دوما ايضا. سيأتي أناس من اليسار الصهيوني ليقولوا انه لا ينبغي محاكمة فترات بناء الأمة مع الفترات التي باتت فيها الأمة راسخة مستقرة وقوية. يحتمل أن يكون هناك حق نسبي في اقوالهم. ولكنهم لا يفهمون بانه من ناحية المعاملة مع الآخر، غير اليهودي، فان شيئا لم يتغير مبدئيا. فقد كان المشروع الصهيوني منذ بدايته مشروعا استيطانيا مركزا على الذات الاثنية وحصريا. يجري الاستيطان الذي لا يتوقف منذ 130 سنة (بين 1948 و 1967 جرى الاستيطان في نطاق حدود دولة اسرائيل وتم تحت شعار «تهويد الجليل» او «تهويد النقب»). هذا لا يعني أنه يجب المحاكمة الاخلاقية لكل مرحلة في مسيرة الاستيطان بشكل مشابه، ولكن يمكن البدء في فهم الظاهرة التاريخية التي نعيش فيها، وذلك فقط عندما نراها مسيرة واحدة متواصلة. من أجل الوصول الى حل وسط على 1967 من الضروري فهم الـ 1948. إن أسباب هزيمة اليسار الصهيوني عديدة ومتنوعة، ولا يمكن الوقوف عندها كلها في مقال قصير واحد. وسنذكر فقط بعضا منها. اليسار الصهيوني أقام سلوكه ليس فقط على الضرورة المأساوية للتاريخ: حقيقة أن اوروبا، وبعد ذلك القومية العربية، لفظتانا، ولما أغلقت الولايات المتحدة بواباتها لم يتبقَ لنا خيار. ما كان لحجة من هذا القبيل أن تكون اسطورة قومية مجندة. ولهذا فقد استند اليسار الى قصة ثيولوجية – ميثولوجية (دينية اسطورية) (ألبست في صورة كذبة تاريخية عن النفي الجماعي الإكراهي قبل ألفي سنة) منحت شرعية للاستيطان والسلب. صحيح أن الصهيونية كانت تحتاج لتقتل الرب كي تصبح حركة قومية نشطة، ولكن عدم قدرتها على تعريف اليهودي العلماني فرض عليها المرة تلو الاخرى الانسحاب والاعتماد على التقاليد الدينية اليهودية. هذا هو السبب الذي جعلها لا تفصل ابدا بين الدين والدولة وتودع في ايدي الحاخامين كل احكام العائلة وعلامات الهوية الجماعية. وفضلا عن ذلك فان «الحق التاريخي» تعلق بقدر أكبر بالقدس القديمة، الخليل، واريحا مما في الأرض الضيقة التي بين عسقلان وعكا. فكيف يمكن فجأة تقييد هذا الحق فقط بحدود الخط الاخضر؟ نعم، ضمن أمور اخرى تكمن مصادر التحول التاريخي الحاسم والانزلاق من التكامل القديم بين القومية والاشتراكية الى الخليط المظفر بين القومية والدين اليهودي المتجدد والمنتعش. في نهاية المطاف، فان المستوطنين الصهاينة الاشتراكيين لم يكونوا أكثر اخلاقية من مستوطني اليمين معتمري الكيبا اليوم. كانوا أكثر ازدواجية أخلاقية بكثير، وهذا الفرق مهم. فاذا كانت الازدواجية الاخلاقية هي بادرة طيبة يقوم بها الشر تجاه الخير فانها كفيلة في ظروف تاريخية محددة أن تشكل عامل لجم. اما اليوم فثمة شعور بأن هذا اللجم آخذ في الانحلال. فالشر يعرض على الملأ، ولا يتبقى الا قبوله أكثر فأكثر. تضطر الازدواجية الأخلاقية اليوم الى الانسحاب، ضمن امور اخرى، بسبب الشفافية. في العام 1948 لم تكن كاميرات في كل قرية عربية طرد سكانها. ليس لدينا صور من الجريمة في دير ياسين ولا القتل الجماعي في كفر قاسم. في قضية خط 300 كانت هناك كاميرات صحافية لم يأخذها ابراهام شالوم الذكي بالحسبان. اما في قصة ازاريا فوجدت كاميرات وفيديو. وهي توجد اليوم في كل مظاهرة، في كل عملية، وتقريبا أمام كل فعل ظالم (الإرهابيون في اوروبا يعملون لتحقيق صور استعراضية). من الصعب على الكلمات ان تخفي الصور. ولا يتبقى سوى الاستسلام للأخيرة والاعتراف بوجود الشر. لما كان لا يوجد خطر فاشية، فهل الوضع جيد؟ لا. نحن نوجد في وضعية خطيرة يمكنها ان تتدهور الى طرد جزء من سكان «المناطق»، وحيال المقاومة المسلحة الجدية قد تقوم بمذابح جماعية. ان المتاهة التي علقت فيها إسرائيل في المرحلة الاستيطانية الحالية، التي بدأت في 1967، تبدو بلا مخرج. لا يبدو أنه توجد قوة سياسية يمكنها أن تنقذها منها. ولا يتبقى سوى الأمل في أن ينقذنا العالم من أنفسنا. عن «هآرتس» *مؤرخ وأستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، عُرف برفضه للصهيونية، ومن أشهر مؤلفاته «اختراع الشعب اليهودي»، و «اختراع أرض إسرائيل» و»كيف لم أعد يهودياً».