أقرأ باستمرار مقالات المؤرخ دانيال بلتمان، وأُقدر جدا اسهامه في التحليل المعمق لما يحدث في المجتمع الاسرائيلي، فيما يتعلق بسيطرتنا على ملايين الاشخاص الذين ليست لهم حقوق انسان ومواطنة. ولهذا السبب بالتحديد حزنت جدا بعد قراءة مقالته "عمل بالدراجة الهوائية، فورمخت وحرس الحدود" ("هآرتس"، 8/8).
الشعب اليهودي، الذي حوله تاريخه الى رمز للمطاردة، يحمل معه الدرس الانساني، الذي يجب أن يتعلمه ويُعلمه، وهو الحق والواجب في الدفاع عن المطارد من القامع، والسهولة التي ينتشر فيها الشر الانساني، ولا سيما الطريقة التي يجب معاملة الشعوب الضعيفة بها.
لكن المقارنة التي يقوم بها بلتمان بين جندي حرس الحدود، الذي صادر دراجة هوائية لطفلة فلسطينية، وبين فورمخت الذي أطلق النار على رأس شخص من اجل الاستيلاء على دراجته الهوائية (استنادا الى البحث المشهور للعالم النفسي فيليب زمبرادو عن عملية عدم أنسنة الضحية) يعمل على مضاءلة خطر اللاسامية الاوروبية بشكل عام والألمانية بشكل خاص. لقد كان من الاجدر قراءة الواقع بشكل كامل، على ضوء التاريخ. وبلتمان يعرف هذا التاريخ بشكل أفضل مني.
المقصود هنا مقارنة أحداث خاصة وتجاهل التاريخ. ففي "المناطق" المحتلة يوجد تمييز خطير. وبلتمان يستخدم مفهوم "فلسطينوراين" من اجل مقارنة التمييز مع الوضع الذي ساد في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية. في الحادثة في "المناطق" والحادثة التي كانت خلال الحرب العالمية الثانية يظهر جنود حرس الحدود وجنود فورمخت والدراجة الهوائية. بلتمان يقوم بالربط بينها، رغم أنه في الحالة الاولى يدور الحديث عن مصادرة دراجة هوائية وفي الحالة الثانية يدور الحديث عن اطلاق النار على رأس شخص للاستيلاء على دراجته الهوائية.
إن بحث زمبرادو (الذي أظهر أن الشر يتطور بالضرورة في ظروف السيطرة والتفوق اللذين ينشآن عدم الأنسنة) الذي يستخدمه بلتمان على أنه أساس نظري للمقارنة التي يجريها، بعيد عن تفسير لماذا تقوم كل أمة تسيطر على شعب آخر بالابادة الجماعية. ويمكن التوصل الى الاستنتاجات بأثر رجعي، بعد حدوث الابادة الجماعية، من خلال تحليل العمليات التي سبقت ذلك. ولكن يمكن الاستنتاج من عمليات معينة تعطي المؤشر الى حدوث عمليات إبادة جماعية في المستقبل.
الخطر الأكبر الذي يمكن أن نفهمه من المقارنة التي قام بها بلتمان هو محاكمة مدى خطورة الاخلال بحقوق الانسان الذي يحدث في "المناطق"، حسب تدهوره المستقبلي، كما يتوقع، أي أنه عندما نتعاطى مع مصادرة دراجة هوائية على أنها عملية في الطريق الى ابادة شعب للحصول على الدراجة الهوائية، فهم لا يقلقون فقط من العمل نفسه ولا من خطورة مصادرة الدراجة الهوائية لطفلة، بل لكون هذا العمل مرحلة في الطريق الى عمل أصعب كثيرا. إن تأثير الدراجة الهوائية، كما يُحذرون، سيصل في المستقبل الى حد الابادة الجماعية، والاستيلاء على الدراجة الهوائية يحول الجيش الاسرائيلي الى فورمخت.
هذه صورة مرآة لسلوك اليمين، المفضل على رئيس الحكومة، من خلال ذكر الكارثة في جميع المناسبات. يبدو هذا الامر مصطنعا ولا يبعث على الثقة. وهو يساعد اسرائيل في تبرير سيطرتها على "المناطق"، لأنه يسمح لها بنقاش مقارنة الكارثة بدلا من الحديث عن خطورة ما يحدث في "المناطق".
تحليل من النوع الذي قام به بلتمان للابادة الجماعية التي نفذها الألمان، يتجاهل حقيقة أن كراهية اليهود هي أمر مغروس عميقا في المجتمع الألماني منذ عشرات السنين، قبل الحرب العالمية الثانية، وأن اسرائيل لا توجد لها سياسة موجهة تطمح الى ابادة الشعب الفلسطيني.
مقارنة ما حدث للجنود الألمان ايضا، الذين خدموا في اوساط السكان الذين اعتبروهم دونيين وعملية عدم الأنسنة التي يقوم بها جنود الجيش الاسرائيلي تجاه الفلسطينيين، تتجاهل تماما الحربين العالميتين والاهانة التي تعرضت لها ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وصعود الاحزاب القومية المتطرفة ونظريات العنصرية التي تبلورت في ألمانيا في ذلك الحين.
يجب على مواطني اسرائيل انهاء سيطرتهم على الشعب الفلسطيني، ليس لأن الجيش الاسرائيلي يشبه الفورمخت فهو ليس كذلك. المواطنون الاسرائيليون بشكل عام والمواطنون اليهود بشكل خاص يجب عليهم تقديس حقوق الانسان، التي شارك اليهود في صياغتها، والتي تم تعديلها من اجل الدفاع عن أجيال المهاجرين الضعفاء في وجه الأقوياء. وهذا هو أحد الدروس الاساسية للكارثة. إن السيطرة على الاشخاص الذين ليست لهم حقوق والمعاناة الشديدة التي تسبب بها لهم منذ جيلين تعتبر إهانة لتاريخ الشعب اليهودي، وهذا هو السبب الذي يجب أن يدفعنا لانهاء هذه السيطرة والنظر الى تاريخ الشعب اليهودي باستقامة.
من الدرس الذي تعلمناه من تاريخ القرن العشرين، ومن تجارب ملغروم وزمبرادو اللذين أظهرا كيف أن الناس يكونون مستعدين جدا لتنفيذ اعمال فظيعة – يمكن الاستنتاج أنه لا يوجد شعب أو شخص محصنين من الشر الذي ينشأ في ظل السيطرة وفي اعقاب عدم الأنسنة. السوء الذي يكمن في سيطرتنا على "المناطق" خطير بما يكفي، حتى بدون ذكر الكارثة. وأنا وبلتمان متفقان في هذا الشأن.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف