ليست هي المرة الأولى التي تتدخل فيها الحالة العربية بمحاورها المختلفة في الشأن الفلسطيني. فهناك تداخل موضوعي بين الحالتين في إطار الصراع ضد الإحتلال الإسرائيلي، فضلاً عن إستضافة بعض الدول العربية لآلاف اللاجئين الفلسطينيين ما يبقى صلة هذه الدول مع أي حل قد يطرح للقضية الفلسطينية. وتاريخ القضية الفلسطينية يؤكد أن النزوع القومي لدى الفلسطينيين وإيمانهم بالحل القومي لقضيتهم إستمر عنواناُ لتحركهم إلى أن صدمتهم هزيمة حزيران (يونيو) 1967، ما قاد موضوعاً إلى بلورة المشروع الوطني الفلسطيني والشخصية الوطنية الفلسطينية، دون التبرؤ وإنكار البعد القومي للقضية الوطنية في صراعها ضد المشروع الصهيوني في المنطقة.
وإذا كان سليماً، في المجرى العام، بلورة شعار «القرار الوطني المستقل»، فإن تطبيقاته رافقتها إنحناءات وإنعطافات لأنه رفع في وجه أنظمة عربية بعينها، وجرى طيه جانباً في العلاقة مع أنظمة عربية أخرى، بما يخدم سياسات وتكتيكات القيادة المتنفذة في م.ت.ف، ويبرر لها سياساتها المحورية.
إذ، ورغم شعار «القرار الوطني الفلسطيني المستقل» بقيت القيادة الفلسطينية الرسمية، تاريخياً، تمارس سياسة المحاور العربية، ما عكس نفسه طويلاً، بسلبياته القاتلة والمدمرة أحياناً، على أوضاع الفلسطينيين في بعض الدول العربية المضيفة.
ولم تقتصر سياسة المحاور العربية على القيادة الرسمية، بل مارستها أطراف داخل م.ت.ف، أكثر من مرة، حين شكلت، في مراحل مختلفة. من مراحل النضال الوطني الفلسطيني، وفي سياق إحتدام الخلافات السياسية، تشكيلات محورية، أرادت أن تقدمها بديلاُ لمنظمة التحرير الفلسطينية، لكن الفشل كان حليفها، وبقيت المنظمة على ثغراتها وسقطاتها هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
ولعل واحدة من أبرز المحطات التي تنازلت فيها القيادة الرسمية عن الموقع التمثيلي لمنظمة التحرير، في سياق سياسة التقرب من الحل الأميركي، دخولها «إطار العمل المشترك» مع عمان، في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وبحيث وضع شعار «القرار الوطني الفلسطيني المستقل» في ثلاجة الإنتظار، لأنه لم يعد، في تلك المرحلة، واحداً من عدة الشغل، في الإنخراط في السياسات المحورية العربية.
مع الرئيس عباس، ليست الأمور بأفضل حالاً:
• فقد جرى إختياره خلفاً للرئيس الراحل ياسر عرفات، بقرار عربي، دولي، قبل أن يتم إنتخابه من قبل الشارع الفلسطيني. كان، بسبب خلافاته مع الرئيس عرفات، في حالة إعتكاف سياسية. وفي الساعات الأخيرة من حياة الرئيس الراحل، خرج عباس من إعتكافه، وبدأ يتحرك بإعتباره هو الرئيس الجديد. ولولا الضوء الأخضر العربي والدولي لما كان له ما كان. وعندما طلب من فاروق القدومي (وزير خارجية فلسطين آنذاك وأمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح) أن يرافق جثمان الرئيس الراحل في المروحية من القاهرة إلى رام الله، إعتذر، مدركاً أنه ليس «رجل المرحلة»، وأن مرحلة أوسلو، لا يديرها إلا طباخو أوسلو أنفسهم.
• عندما أعيد إنتخاب الرئيس عباس في إنتخابات العام 2005، أبلغه الرئيس المصري (السابق) حسني مبارك، بضرورة ترتيب أوضاعه القيادية. وطلب إليه، بإسم المحور العربي الذي كان يمثله مبارك أن يعين محمد دحلان وزيراً للداخلية ومستشاراً للأمن القومي، وياسر عبد ربه أمين سر اللجنة التنفيذية، وصائب عريقات رئيساً للوفد المفاوض مع إسرائيل. وإستجاب الرئيس عباس للطلب العربي، دون أن يشعر أن ذلك يتعارض مع «القرار الوطني الفلسطيني المستقل».
• وإذا كانت العلاقة مع الدول العربية تصلح لأن تكون أكثر من مثال فاقع يكشف حقيقة لعبة «القرار المستقل»، فإن العلاقة مع الجانب الإسرائيلي، تبدو أكثر فجاجة، ولا يمكن التستر عليها إطلاقاً. فالقيود التي فرضها إتفاق أوسلو على الفريق الفلسطيني المفاوض، والتي تحولت إل قيود على السلطة الفلسطينية، أكثر من أن تحصى، لعل أخطرها أنه فرض على القيادة الرسمية أن تشطب الميثاق الوطني الفلسطيني وأن تلغيه نزولاً عند أوسلو، لأنه يحوي، كما قيل، عبارات معادية لإسرائيل. وكأن الحالة الفلسطينية إنتقلت مع إسرائيل إلى السلام، وكأن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني قد تحققت كاملة ولم يعد أمامنا سوى أن نعيد النظر بوثائقنا الرسمية لصالح السلام (المزعوم) الذي مثله إتفاق أوسلو.
وفي إطار الممارسات اليومية، تعترف السلطة بأن قيود أوسلو تعطل عليها أن تتخذ قرارها المستقل. فهي ليست مستقلة مالياً، ولا إقتصادياً، ولا أمنياً، بل حولت مناطق السلطة، بفعل إتفاق أوسلو، وبروتوكول باريس الإقتصادي، إلى مستعمرة إسرائيلية، جزءاً لا يتجزأ من الإمتداد الإسرائيلي الأمني والإقتصادي، في ظل شروط تعفي الجانب الإسرائيلي من الأعباء، وتبقي له المكاسب والمغانم وتصون له مصالحه على إختلاف أنواعها.
مع الكشف عن «خطة الرباعية العربية» حول القضية الفلسطينية عادت القيادة الرسمية (وجوقة المنشدين والمرددين من حولها) إلى نغمة «القرار المستقل».
ونحن ندرك، من خلال مراجعة «الخطة» أن ما يقلق هذه القيادة ليس الحديث عن إنهاء الإنقسام، خاصة أنه يدعو إلى «شرعية واحدة وبندقية واحدة» تحت قيادة أبو مازن، وليس تجديد الشرعيات الفلسطينية عبر إنتخابات شاملة بما خص مؤسسات السلطة و م.ت.ف، وليس الحديث عن تعزيز صمود القدس، وإن كانت قد أشارت إلى آليات جديدة، في نقد مبطن لمظاهر الفساد والهدر لدى السلطة ومؤسساتها، وليس الحديث عن دعم اللاجئين خاصة في مخيمات لبنان وسوريا، أو حل مشكلة الكهرباء في غزة والضفة وفتح معبر رفح، وحل مشكلة البطالة بإستقبال الخريجين الفلسطينيين في الدول العربية، أو إعادة طرح مبادرة السلام العربية كأساس للحل، مع ضمان قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس.
ليس هذا كله ما يقلق القيادة المتنفذة. فهذا كله جزء من خطابات الرئيس عباس، وبيانات اللجنة المركزية لفتح، واللجنة التنفيذية في م.ت.ف. وأهداف يومية لنضالات الحالة الفلسطينية.
ما أقلق القيادة الرسمية، وقيادة فتح، هي الدعوة إلى «المصالحة الفتحاوية» والدعوة لإعادة من تسميهم قيادة فتح «المتجنحين»، أي محمد دحلان وإخوانه، إلى صفوف الحركة. ولعل تصريحات جبريل الرجوب، وسلطان أبو العينين، وبعدهما حديث الرئيس عباس في لقائه مع أصحاب الحاجات الخاصة، لم يتطرق سوى لمسالة واحدة في الورقة العربية، هي مسألة «فتح» وعودة دحلان وإخوانه إلى صفوفها.
لذلك نعتقد أن المطلوب هو رسم موقف وطني من الورقة العربية، عبر حوار فلسطيني مسؤول، يرى إيجابياتها، إذا ما رأى فيها إيجابيات، ويبرز سلبياتها، إذا ما رأى فيها سلبيات. وبناء عليه يرسم خطة التحرك إزاءها.
أما أن تزج الحالة الفلسطينية كلها في صراع المحاور العربية، للتغطية على أزمة فتح، فذلك أمر يتطلب إعادة نظر

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف