فى دراسة أكاديمية ممتعة للمفكر الفلسطينى فهد سليمان، نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، نشرها فى جريدة «الحرية» (29 -11-2015)، نقرأ أفكاراً مهمة وأساسية حول الدولة المدنية كفكرة وأسلوب حياة.
وتبدأ الدراسة بكيفية تشكل هذه الدولة والمراحل التى مرت بها فى أوروبا حتى استقرت أسسها المؤسسية والدستورية والقانونية.
ويبدأ الكاتب ليقول «الدولة المدنية نتاج لتطور تاريخى شهدته المجتمعات البشرية وهى ضرورة موضوعية لمواكبة الأوضاع العصرية التى تتطلب قيام الدولة الحديثة التى تستمد وحدتها وتماسكها من وحدة وتماسك مجتمعها». ويقول إن هذه الدولة تقوم على أربع قواعد لا بد أن تتواكب معاً ولا يمكنها أن توجد إذا فقدت أو أضعفت واحدة منها، وهى:
1- المساواة التى تستند إلى الدستور والقانون لإقامة المواطنة لجميع أبناء الشعب بكل مكوناته بغض النظر عن الانتماء الدينى أو المذهبى أو الجنسى أو الجهة أو الإثنية أو اللغة أو حالات الإعاقة.
2- الحرية، وتتضمن حرية الرأى والضمير فى قضايا ومجالات الفكر والسياسة والإيمان والمعتقد، مع الالتزام بحرية الآخر وعدم الاعتداء على حرية الرأى عند الآخر فرداً كان أو جماعة أو التطاول على معتقداته أو المساس بها.
3- حياد الحيز العام الذى يقوم على أساس الفصل بين مؤسسات الدولة وبين المؤسسات الدينية (وهو ما يسمى فصل الدين عن الدولة).
4- الشعب مصدر السلطات، وبالتالى فهو منشئ التشريع من خلال المؤسسات التى تعبر عن إرادة مجموع المواطنين المرتبطين فيما بينهم بعقد اجتماعى توافقى من خلال ممثليه المنتخبين ديمقراطياً.
وهكذا نجد أن الدولة المدنية هى فى أوروبا والغرب عموماً عملية شاملة لقواعد أربع ثابتة واكبت صعود البرجوازية فى البلدان الأوروبية ذات التشكيلة الاجتماعية/الاقتصادية الأكثر تطوراً. ويقول: «ومع تطور نمط الإنتاج الرأسمالى على مدى تاريخى تطورت أسس وقواعد الدولة المدنية على ذات المدى التاريخى».
فهى، إذن، عملية تاريخية ولم تتم بقفزة واحدة. كذلك فإن هذه الدولة لا يمكنها أن تقوم على أساس ما سماه الفيلسوف الألمانى أوسفالد شنيغلر «التشكل الكاذب»، حيث البعض من الحكام يزعمون أنهم يقيمون دولة مدنية وحديثة ويملأون المدن بمنشآت ضخمة وحديثة وفنادق وحدائق وتكنولوجيا ولكنهم فى واقع الأمر يقيمون دولة تنتمى للقرون الوسطى.
وبعد هذا التدخل نعود إلى فهد سليمان الذى يحدد أمامنا ثلاث مراحل أساسية تمثل كل منها محطة تاريخية ومفصلية:
عام 1688: وهو تاريخ «إعلان الحقوق» الذى من خلاله منح البرلمان الإنجليزى نفسه صلاحيات واسعة إزاء الملك. فأرسى الأسس الأولى للديمقراطية البرلمانية فى الغرب ولكن فى إطار نظام سياسى ملكى أرستقراطى بما أدى إلى انتقال إنجلترا إلى نظام الملكية الدستورية فى إطار ملك يملك ولا يحكم.
عام 1776: وهو تاريخ إعلان الاستقلال الأمريكى وفيه بدأ السعى لاستقلال أمريكا عن الاستعمار البريطانى وفى هذا الإعلان تم التأكيد على أن البشر ولدوا متساوين ولهم حقوق غير قابلة للتصرف أو المصادرة مثل حق الحياة والحرية. ولضمان هذه الحقوق تقوم حكومات تستمد سلطتها الشرعية والقانونية من رضاء المواطنين الذين لهم الحق، فى حالة إخلال الحكومة بهذه الحقوق، فى تغييرها وإقامة حكومة جديدة.
عام 1789: وهو عام انتصار الثورة الفرنسية على النظام الملكى تحت شعارات ثلاثة: (حرية، مساواة، إخاء).
ويعود بنا فهد سليمان ليذكرنا بأن هذه المراحل الثلاث قد تحققت فى ثلاثة بلدان تمثل بكياناتها ونهوضها أسس التطور الغربى (إنجلترا، أمريكا، فرنسا)؛ فهذه البلدان الثلاثة رغم اختلاف أوضاع كل منها قد حققت معاً عملية ذات بعد كونى قامت بها ومن خلالها الدولة المدنية الديمقراطية التعددية التى تقوم على أساس الحرية والمساواة بمضمون اجتماعى يعكس محصلة التوازن الطبقى الذى نشأ فى سياق عمليات ثورية اختلفت معطياتها من مكان إلى آخر.
لكن فهد سليمان يعود ليذكرنا بأن انتصار الدولة المدنية فى البلدان الثلاث لم يؤدّ تلقائياً إلى انتصار المواطن العادى بنفس الدرجة فقد استلزم عقوداً عديدة من النضال لكى يتحقق التنفيذ الفعلى لتطبيق مبدأ المساواة فى المواطنة. ففى مجال الانتخابات، مثلاً، تطلب إقرار حق المواطنين عامة فى المشاركة فى الانتخابات معارك طويلة، ففى البداية اقتصر هذا الحق على الملاك أو دافعى الحد الأدنى من الضرائب أو الانتخاب على درجتين، وحتى بعد الانتصار فى هذه المعركة وتحقيق المشاركة العامة فى الانتخابات ظل حق المرأة فى المشاركة محلاً لصراع طويل، وفى أمريكا كانت حرب دامية لإلغاء العبودية. كذلك فإن المسار التاريخى لتحقق الدولة المدنية قد تقطعه عملية ارتداد عبر تحرك ظلامى يوقف مسيرته (كما فى مصر عام 2013).
ونشير نحن إلى أن تحقيق المساواة السياسية وانتصار حقوق الانتخاب الحر، تحولت فى بعض البلدان إلى حقوق مجازية أو مفترضة لكنها متحققة فى إطار لا يحققها فعلياً بعد بروز دور متوحش للمال السياسى الذى حول الانتخابات البرلمانية إلى تجارة رائجة تنفق فيها تلال من الأموال لشراء المقاعد. كما أن الصراعات السياسية لم تلبث أن أثارت صراعات اجتماعية حول العدل الاجتماعى واحترام حقوق المواطنين فى الحرية والخبز معاً.. وليس تحقيق أحدهما مع دوس الآخر (فى التجربة الناصرية منجزات اجتماعية ولا للحرية والعكس عند السادات).. وهكذا شهدت مصر حكاماً منحوا الشعب قدراً من العدل الاجتماعى واستلبوا منه بالمقابل حرية الرأى والتعبير والتنظيم السياسى. وفى مصر، وإذ كانت ثورة 25 يناير 2011 رفعت فى مساحات الميادين شعارات (عيش- حرية- عدالة اجتماعية)، وهى شعارات يسارية بالأساس ومنذ ذلك الحين تتردد هذه الشعارات كمجرد لغو سياسى بلا تنفيذ حقيقى. وأعتذر لفهد سليمان على تدخلاتى المطولة. ولكننى رغم تدخلاتى حرصت على أن أورد أهم ما قاله فى دراسة مطولة وأكاديمية وممتلئة بالمعرفة التاريخية والتحليل المتقن.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف