يوجد نوعان من الدول؛ دول لا تخجل من الاعتذار عن جرائم الماضي التي ارتكبتها، وتحاول اصلاح الجور وتعويض الضحايا أو عائلاتهم، حتى وان كان بتأخير عشرات أو مئات السنين. ألمانيا، التي يعد التزامها بأمن اسرائيل حجرا أساسا في سياستها الخارجية، هي مثال بارز. الولايات المتحدة، استراليا، ونيوزيلندا أيضا، التي أعربت عن الندم وتحاول إعادة تأهيل السكان الاصليين لديها بسبب مئات السنين من السلب، الطرد، والتمييز، هي من النوع الأول. في العام 1956 حتى زعيم الحزب الشيوعي، نيكيتا خورتشوف، عرف كيف يندد بسلفه، الطاغية الوحشي جوزيف ستالين، على جرائمه في الاتحاد السوفياتي.
بالمقابل، تركيا، التي تمتنع عن الاعتراف بمسؤوليتها عن كارثة الأرمن وتحاول الصراع ضد كل من ينتقدها على ذلك، هي من النوع الثاني: دول تتنكر لمسؤوليتها عن جرائم الماضي وترفض الاعتراف بها. لشدة الأسف إسرائيل هي الاخرى تنتمي الى النوع الثاني، ومثل الأخريات هي ايضا تمارس مفاعيل القمع، كبت الذاكرة، واعادة كتابة التاريخ.
مفعال واحد هو الرقابة العسكرية، التي تمنع نشر مظالم الماضي – قتل الاسرى، طرد السكان، عمليات سرية، علاقات مع تجار مخدرات وغيره. اسرائيل، من خلال الوزارات الحكومية والاجهزة التابعة لها او بتكليف منها، تستخدم أيضا آلات الدعاية لإعادة كتابة تاريخ ماضيها.
وكأن شيئاً ما كان سينقص من كرامتها، مكانتها الدولية، ووضعها الأخلاقي في العالم، لو كان العكس؛ لو كانت تعترف بأنها في غمرة الحرب التي فرضت عليها في العام 1948 من جانب الحاضرة الفلسطينية والدول العربية، كانت ضالعة أيضا في طرد مئات آلاف المواطنين. كان يمكن لاسرائيل أن تعترف بانه في تلك الحرب، التي كانت من ناحيتها عادلة، ارتكبت أيضا أفعالاً فظيعة. مثل هذا الاعتراف بمسؤوليتها الجزئية (الى جانب حقيقة أن مئات آلاف الفلسطينيين تركوا بيوتهم طواعية أو لأنهم استجابوا لتعليمات زعمائهم) كان يمكن له ربما أن يساعد ولو بقليل في تطهير الاجواء وتخفيض مستوى الكراهية بيننا وبين الفلسطينيين. وحتى لو لم يكن هذا سيدفع الى الامام التفاهم بين الشعبين، فان اسرائيل كانت ستحظى بالاحترام والتقدير في الاسرة الدولية على استقامتها، صدقها، وحساسيتها التاريخية.
ولكن دعونا من "حرب التحرير"، التي تلمس أحداثها الاعصاب الاكثر انكشافا للنزاع الاسرائيلي – العربي. توجد أحداث موضع جدال أقل، ومن الواضح منها من هو الخيّر ومن هو الشرير.
خذوا مثلا علاقات اسرائيل – جنوب افريقيا. في السبعينيات والثمانينيات أدارت اسرائيل قصة عشق معيبة مع نظام الأبرتهايد لحكم الاقلية البيضاء، الذي قمع، ظلم، أهان، عذب وميز ضد الاغلبية السوداء. كانت اسرائيل بين الدول القليلة في العالم التي دعمت نظام الأبرتهايد، أقامت معه علاقات أمنية، باعته السلاح والتكنولوجيا، وتعاونت معه في مجال النووي. هذه العلاقة غير المقدسة بين دولة الناجين من الكارثة والمستوطنين الافارقة العنصريين، هي من الفصول المعيبة في سياسة الخارجية والأمن الإسرائيلية. وحتى اليوم لم تكلف اسرائيل نفسها عناء الاعتذار أو إبداء الندم على افعالها. وفي أقصى الأحوال شرح الناطقون الرسميون بلسانها بان العلاقة، التي سميت ايضا "حلف المنبوذين"، خدمت مصالح اسرائيل الأمنية.
كانت لإسرائيل قصص غرام أخرى مشينة مع دكتاتوريين في افريقيا وفي وسط وجنوب افريقيا وارتكبوا مذابح وقمعوا ابناء شعبهم. ولم تمنع أفعالهم اسرائيل من ان تبيعهم السلاح وترشد سرايا الموت لديهم.
في العقد الاخير وإن كانت اسرائيل تحاول تغيير نهجها والنظر ليس فقط في اعتبارات المصالح الضيقة بل أن تحقن بعضا من الاخلاق – القليلة جدا للاسف – في سياستها الخارجية، إلا ان ما نشر في "هآرتس" في ايلول بان اسرائيل أصبحت مروجة في الولايات المتحدة وفي الدول الغربية لنظام القمع والقتل في السودان، ينبغي أن يهز ضمير كل اسرائيلي.
في السودان يحكم عمر البشير بيد من حديد منذ نحو 30 سنة، حيث صعد الى الحكم في انقلاب عسكري. وفي الماضي استضاف كبير "المخربين"، المجنون كارلوس، الى أن سلمه لفرنسا. ومنح ملجأ لاسامة بن لادن و"القاعدة"، والذين قصفتهم صواريخ أميركية. ووفر قواعد في بلاده للحرس الثوري الايراني (مقابل النفط)، وسمح لهم بتخزين السلاح وتهريبه لمنظمات "الارهاب" في غزة. لم تتردد اسرائيل منذ 2009 في القصف في السودان ضد هذه المخازن وقوافل السلاح. ولعل الأهم من كل شيء أن الحاكم السوداني ارتكب من خلال جيشه ومليشياته مذبحة في دارفور. ولهذا السبب فقد أعلنت عنه محكمة الجنايات الدولية في لاهاي "مجرم حرب" يتوجب تقديمه الى المحاكمة.
ومع ذلك، قررت اسرائيل تجاهل كل أعمال الفظاعة، فقط بسبب حقيقة أنه في السنتين الاخيرتين أدار البشير ظهره لايران، وقطع الاتصال معها وارتبط بالتحالف السني بقيادة السعودية التي تقاتل في الحرب الاهلية في اليمن ضد الشيعة وايران. اما الترويج الاسرائيلي، باسم "الواقعة السياسية"، فهو وصمة عار اخرى بشعة على الضمير الاسرائيلي واليهودي، على المعايير الدولية وعلى قيم الثقافة والديمقراطية التي تدعي اسرائيل التباهي بها.
المذهل هو أن هذه الافعال التي تقوم بها حكومة اسرائيل تتم في دولة يزعم أنها تقدس كل سنة في شهر تشري، اكثر من أي دولة ودين، قيم الاعتذار والمغفرة وطهارة الروح، ليس فقط بين الانسان والمكان بل وبالاساس بين الانسان والانسان، ممن خلقهم الرب جميعهم على صورته.


لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف