- تصنيف المقال : الاستيطان
- تاريخ المقال : 2016-10-24
على مدى أربعة عقود، سوت قطعان المواشي سفوح التلال وحولتها إلى دروب صلبة تسير عليها صباح مساء للوصول إلى المراعي والعودة منها في أقصى نقطة شمال شرقي الضفة الغربية.
وحتى أربعين يوما مضت، ظلت الدروب التي تظهر جلية من أعلى تلة يطلق عليها "خلة حمد"، طريقا سهلة أمام فلسطينيي المنطقة الذين يعيشون هناك، أصبحت منذ وقت قصير اسما في الأخبار.
تمكنت عدسات الكاميرا من التقاط صورة لتلك الدروب، التي لا يتجاوز عرضها نصف متر، وتتلوى في بطون التلال على مد النظر. لكنها لم تعد آمنة للسلوك بعد اليوم.
في ليلة من الليالي سمعت العائلات الفلسطينية التي تسكن في ملاجئ مؤقتة من الخيش، ضجيجا في التلة التي تشرف على مساكنها. في الصباح تبين أن مستوطنين وصلوا ليلا وبدأوا البناء.
"لم نعرف ماذا جرى في الليل... في الصباح عرفنا إنهم يبنون مستوطنة"، قال محمد عواد أيوب، الذي يسكن في المنطقة منذ أربعين عاما.
بدأ المستوطنون ببناء بؤرة استيطانية جديدة في منطقة مرتفعة قريبة من مستوطنات أقيمت سابقا، إلا أن إعلانا رسميا إسرائيليا عن هذه المستوطنة لم يظهر إلى العلن حتى اليوم.
في الظهيرة يبدو المكان هادئا، ويتطلب الوصول إلى نواة البؤرة تحدي طريق جبلية وعرة صاعدة، وتحد آخر لاحتمال اعتراض المستوطنين طريق المشاة في المنطقة.
عن بعد يظهر المشهد مثل مشاهد بناء مستوطنات كثيرة يحفل بها الأرشيف الصحافي: سياج شائك ومواد خام مثل الاخشاب وقضبان الحديد، ورشة متواضعة للبناء، وبعد سنوات مستوطنة كبيرة تعقد حياة الفلسطينيين إلى أبعد حد.
قال عواد الذي يستغرق الوصول من مكان سكناه إلى نواة البؤرة الجديدة أقل من نصف ساعة مشيا على الأقدام: "شاهدتهم في الأيام اللاحقة التي تلت الليلة الأولى يحضرون الأخشاب والحديد في جرارات من مستوطنات مجاورة". وأضاف: "في البداية كان شخص وفي الأيام التالية جاء آخرون لمساعدته".
يقول سكان المنطقة إن المستوطنين أقاموا في البداية غرفة واحدة قريبة من أقدام التلة حتى يتسنى لهم الاقتراب من القمة.
وعلى أرض الواقع تظهر تلك الغرفة في منطقة ظليلة أسفل الوادي الذي يحاذي التل. وظهر هناك المستوطنون يقودون قطيعا من المواشي .فيما المحيط زرع بأجيال مختلفة من أشجار الزيتون والنخيل.
وأعطت قطعان الغزلان الجبلية التي تعدو بسرعة بين المنزل والحقول مشهد سلام مضاد لمشهد العداء الذي ينشره المستوطنون.
ويسود إحساس بالضيق والخوف عند السكان الفلسطينيين، الذين خسروا منازلهم مرات متكررة بعد هدمها من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهم الآن يخسرون مراعيهم.
يضرب عواد أخماسا بأسداس عندما يتحدث عن الخوف من العودة مرة أخرى إلى المراعي التي باتت تقع خلف حدود البؤرة الجديدة. ويقول: أغلقوا كل شيء الآن. هددوني بالقتل إذا عدت وسلكت الطريق المحاذية من هنا.
في الأيام الأولى التي بدأ المستوطنون فيها بناء البؤرة وضعوا حدودا من سلاسل حجرية أمام العائلات الفلسطينية.
وقال رئيس مجلس محلي وادي المالح، عارف دراغمة، وهي هيئة محلية تدير شؤون السكان في منطقة شمال الغور "وضعوا في كل زاوية من الزوايا ثلاث أو أربعة حجار(...). هكذا أغلقوا المنطقة ببساطة".
يردد المعنى ذاته أيوب: "جاء أحدهم. كان مسلحا. وقال هذه أرضي. هذه أرضي".
يردد مواطنون فلسطينيون الكلام ذاته. ويجزم سكان المنطقة أن بناء البؤرة الجديدة سيكون نسخة آخرى لمستوطنة "سلعيت" القريبة، التي تقدم خدمات المياه والطرق لهذه البؤرة.
عام 2001 بدأ مستوطنون بوضع أول غرفة في "سلعيت"، التي أقيمت على تلة أقل انخفاضا من التلة التي تقام عليها البؤرة الجديدة، وسرعان ما تحول البيت إلى مستوطنة كبيرة يجري اليوم بناء بنايات متعددة الطوابق فيها.
ظهرت عمليات البناء في "سلعيت" مستمرة، ويمكن مشاهدة العديد من الآليات والعمال يباشرون في تسليح سطح بناية هي الأكبر الآن.
أما المواد الخام التي تساعد في بناء البؤرة الجديدة، فهي جاهزة لمباشرة البناء. من بعيد تظهر البؤرة كأنها مجرد مستودع مفتوح على الاتجاهات الأربعة لتجميع الأخشاب والحديد المشبك، لكن الوصول إلى العمق يظهر أن عمليات التخطيط لبنائها انتهت وبدأت عملية وضع الخطة قيد التنفيذ.
"في البداية وضعوا الحظيرة ومخازن المياه البلاستيكية"، قال دراغمة الذي كان يذرع المسافة بين أطراف البؤرة من الشمال إلى الجنوب.
في المكان تظهر المقاعد والطاولات التي تستخدم للراحة وفي المحيط وزعت أوتاد طويلة بهدف وضع السياج الشائك لاحقا. لكن أي مستوطن لم يكن موجودا في المنطقة.
وفي اللحظات الموازية تتسمر أعمال البناء في "سلعيت" القريبة وفي "ميخولا" وهي أول مستوطنة زراعية بنيت في المنطقة عام 1968، وأصبحت مركزا لكل النشاط الاستيطاني في المنطقة.
يبدو كل شيء جاهزا لبعث الحياة في هذه المستوطنة. الطرق الترابية شقت في السنوات الماضية، واقتراب المستوطنين من المنطقة عبر وضع الغرف المتنقلة يحدث بين الوقت والآخر.
تحت أشعة الشمس متوسطة اللهيب لا يعمل المستوطنون الذي لا يتجاوزون العشرة في البناء. إلا أنهم كما يقول أفراد عائلة أيوب يأتون مساء، "من هنا سمعناهم يدقون الحديد. نسمع أصواتهم ونخاف أن نتحرك. لقد هددونا".
والبؤرة التي لم يطلق عليها حتى اليوم اسم، لم يلعن عن بنائها في مناقصات إسرائيلية كما جرت العادة عند بناء استيطاني جديد، إلا أن صحيفة "هآرتس"، قالت في عددها الصادر أمس إن "منسق عمليات الحكومة الاسرائيلية قال إنه تم إصدار أوامر بوقف العمل في البؤرة".
لكن الوصول إلى البؤرة يظهر العكس تماما. فالمواد الخام قيد التجهيز للاستمرار بالبناء بعد بناء الحظيرة. وفي مستوطنات قريبة تقع على امتداد خط "أيالون" تجرى عمليات التوسع الصامت بدون إعلان رسمي عن ذلك.
تظهر الأبنية الجديدة في الجزء الغربي من "ميخولا" في المراحل الأخيرة من تهيئتها. من البؤرة الجديدة يمكن استطلاع تلك الأبنية التي تقام بنفس الوقت.
"إنهم يبنون بيوتا لهم ويهدمون بيوتنا"، قال أيوب الذي هدم جيش الاحتلال كل منازل عائلته في ظرف ساعة من الزمن، في الوقت الذي كان المستوطنون يضعون أول زاوية حديدية في حظيرة البؤرة الجديدة.
المصدر:"وفا"