تجهد تركيا من خلال تدخُّلها العسكري المباشر في سورية لفرض وجودها كلاعب أساسي فيها يصعب تجاوزه في أية تسوية للأزمة السورية، آخذة بعين الاعتبار حدودها المشتركة مع سورية.
بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، تم أخذ كل الأراضي غير التركية منها، وتقسيم "بلاد الشام" إلى العراق وسورية والأردن
التدخُّل العسكري التركي في الأراضي السورية "درع الفرات"، تحت عنوان حماية أمنها القومي بمحاربة "داعش" الذي دعمته بفتح المعابر الحدودية لدخوله إلى سورية وشراء النفط منه، وفتح مراكز التدريب له والمستشفيات لجرحاه، وفي الوقت نفسه محاربة أكراد سورية خوفاً من إعلان دولتهم، ولاتهامهم بالعلاقة مع حزب العمال الكردستاني "الإرهابي" (BBK)، وعملت على إقامة المنطقة الآمنة، وذلك بإحكام سيطرتها على طول الحدود السورية التركية بمسافة 90 كلم من جرابلس إلى اعزاز، وتعمل للتوغُّل بعمق 50 كلم، ولعودة الأكراد إلى شرق الفرات، وعزلهم عن غربه.
الاقتحام التركي لبعض مناطق الشمال السوري بحجة صراعه مع الأكراد ومنعا لقيام كيان لهم متواصل الأجزاء، مهما كان عظم الشك بهذه الإمكانية ومهما كانت طبيعة هذا الكيان، يضيف تعقيدا كبيرا الى معركة حلب. ان الاقتحام التركي وإعلان التصميم على توسيع مساحته وصولا الى مدينة «الباب» بقدر ما هو انتهاك للأرض والسيادة السورية، فانه يضع القوات التركية على تماس مباشر مع معركة حلب وفي تصادم مع الجيش العربي السوري وحلفائه.
وهذا الاقتحام يصب في المحصلة لصالح منع او تأجيل ضرب قوى الإرهاب وهزيمة مشروعها بالمنطقة. وهو يذكّر بحقيقة ان كل الوجود الإرهابي ومأسسة مشروعه وسيطرته على مناطق سورية، ما كان ليتم لولا الدعم والإمداد التركي بكل الوسائل والأشكال والتسهيلات اللوجستية.
الاقتحام التركي على خط معركة حلب السورية بالتوازي والتوافق مع الاقتحام التركي على خط معركة الموصل العراقية، بثنائية تبدو متلازمة ومخططاً لها، يعيد الى الذاكرة العربية ثنائية حلب/ الموصل وخصوصية العلاقة بينهما كما استمرت
تريد تركيا أولاً، ان تستبق الأحداث ومالاتها وتفرض لنفسها دورا مؤثرا في اي مشروع لتسوية أمور المنطقة كلها ولضمان حصتها فيها اذا ما فرضت هذه التسوية إعادة التقسيم والتوزيع. وفي هذا الإطار يأتي نبش أردوغان صفحات تاريخ اسود وفتحه دفاتر الاستعمار والعنصرية العثمانيين، كما جاء في أحاديثه عن اتفاقية لوزان وفي ادعاء مسؤوليته عن حماية التركمان والسنّة.
وتريد ثانيا، منع قيام كيان كردي، كما تمت الإشارة آنفا، وهو ما باتت تخشاه بعمق في ظل العلاقة التي ترفّعها تركيا – بدون أساس موضوعي- إلى درجة تحالف أميركي كردي، ورفع الأكراد سقف مطالبهم القومية على وقع التطورات في المنطقة.
تركيا تقوم بالاقتحام والتدخل الموصوف في سورية والعراق بانسجام تام مع ما تقوم به داخل دولتها ومجتمعها وتجاه كل من ليس مناصرا للحزب الحاكم فيها ومتفقا مع سياساته، وعلى حساب الديمقراطية والعلمانية ولصالح التفرد والاستفراد.
وتركيا تسعى بجد وتصميم للعودة الى زمن العثمانية وسلاطينها، وزمن الهيمنة على الجوار لصالح تكريس مشروعها كقوة اقليمية مهيمنة ومقررة، مستفيدة من الفراغ والسيولة التي تعيشها المنطقة العربية وغياب اي مشروع لها.
انها تسعى الى تركيا بهوية « العثمانية الجديدة» بدلا من الهوية الوطنية كما أسسها اتاتورك.
قد يكون حال الـ «ستاتيكو» في حلب هو احد، او اهم، العوامل وراء حالة الموات في مساعي الحل السياسي الدولية في سورية، خصوصا وان هذه المساعي تكاد تنحصر تماما في القوى الدولية المتحكمة بمسار الأحداث بكل ما بينها من تعارض في المصالح واشتباك بالحسابات واختلاف على مناطق النفوذ، ما يعطي المبرر لتخوف البعض من حرب عالمية تبدأ من سورية.
بالنسبة للفلسطينيين، ما قام به تنظيم "داعش" الارهابي، كان أشبه بخنق القضية الفلسطينية عبر حرمانها من عمقها العربي... الأخطر من ذلك أن هذا التنظيم وبعكس التنظيمات المشابهة الأخرى، لم تتضمن أدبيّاته أي شيء يذكر عن فلسطين، ولم تكن القضية الفلسطينية مدرجة على أجنداته... بل على العكس، لم ير في القضية الفلسطينية شأناً ذا أهمية.
لا شك في أن هناك أطرافاً خارجية هي التي صنعت هذا التنظيم وبثت فيه هذه الروح من أجل تحقيق مصالحها، وإعادة رسم حدود المنطقة بطريقة أسوأ مما فعلت اتفاقية (سايكس ـ بيكو). الأخطر من ذلك أن هذا التنظيم أعاد إحياء النعرات الإثنية والطائفية والمذهبية في المنطقة، بحيث أصبح الانتماء إلى الدين أو الطائفة أو المذهب أهمّ من الانتماء إلى الوطن، الأمر الذي أوجد نزعات انفصالية بين مكوّنات الدول المستهدفة وخاصة العراق وسورية.
كما أن هذا التنظيم بعملياته الإرهابية سواء في المنطقة العربية أو في أوروبا وحتى في أميركا، خلق ثقافة معادية للعرب والمسلمين. وأعطى تصوُّراً للمواطن الغربي بأن هذا التنظيم يعبّر عن فكر يؤمن به كل العرب والمسلمين، خاصة فيما يتعلق بالإرهاب.
والسؤال الذي لا يزال يطرح نفسه دون إجابة أو أن الإجابة مفهومة سلفاً هو: من المستفيد من كل ما قام به هذا التنظيم؟! ومن الذي تحققت مصالحه من ممارسات هذا التنظيم؟!
القضية الفلسطينية هي أولا قضية فلسطينية ثم عربية ثم إسلامية. وفلسطين جزء من الأمن القومي العربي وعلى حدود مصر وسوريا والاردن مباشرة، وليست جزءا من الأمن القومي التركي ولا على حدود تركيا. ولم يبرز الدور التركي بين "إسرائيل" والفلسطينيين ولا بين الفلسطينيين أنفسهم إلا بسبب استقالة العرب من دورهم. وعندما يتحرك العرب تتراجع الأدوار الأخرى. لذا بدا الدور التركي أثناء العدوان على غزة هامشيا وافتقدت تركيا صورة البلد الذي يريد أن يكون مؤسسا للعبة إقليمية ونظام إقليمي. مهما علا صوت حكومة حزب العدالة والتنمية في الدفاع عن القضية الفلسطينية فإنها لم تستطع أن تنتقل إلى مرحلة الفعل المؤثر على "إسرائيل "كما تتواصل علاقات التعاون السياسية في أكثر من قضية ومنها مؤخرا رفع تركيا الفيتو على نشاطات "إسرائيل" مع حلف شمال الأطلسي. كما تستمر العلاقات الدبلوماسية والأمنية والعسكرية والثقافية. ولم تنقطع محاولات التطبيع الكامل للعلاقات في اتجاه الضغط على "إسرائيل" لتقديم اعتذار واضح لتركيا عن حادثة مرمرة. إن واحدا من أهم أسباب تراجع دور تركيا في القضية الفلسطينية أنها باتت أكثر أطلسية في سياساتها الإقليمية مع تعاظم دور تركيا في الحلف ولاسيَّما في مواجهة روسيا وإيران وسوريا، واستفادة "إسرائيل" الكاملة من نظام الدرع الصاروخي في تركيا وهو ما يجعل الاندفاع التركي للاضطلاع بدور عملي ضد المصالح الإسرائيلية ولصالح القضية الفلسطينية مقيدا بالقيود والضغوط الغربية، الأمريكية تحديدا.
عن
موقع بيلست الاخباري

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف