يستطيع الرئيس عباس أن يسجل لنفسه أنه حقق، في نهاية العام المنصرم، بعض المكتسبات، التي تداخلت حدودها بين ما هو تنظيمي خاص بفتح، وما هو وطني خاص بالقضية الفلسطينية. منها إنعقاد المؤتمر الوطني العام السابع لحركة فتح (نكاية بالذين شككوا بشرعية الرجل، كما أوضح بعض مقربيه). ومنها قرار مجلس الأمن الرقم 2334 (23/12/2016) الذي أدان الإستيطان الإسرائيلي بإجماع أعضائه ( بما فيها إمتناع الولايات المتحدة عن التصويت لأول مرة منذ العام 1979)، وكذلك المؤتمر الصحفي لوزير الخارجية الأميركي جون كيري (28/12/2016) الذي أدان فيه أيضاً، الإستيطان، بما هو خطر على «حل الدولتين»، الذي أطلقته الولايات المتحدة وتبنته «الرباعية الدولية»، وبما هو في الوقت نفسه «خطر» على مستقبل الدولة الصهيونية كمشروع سياسي يخدم المصالح الغربية في المنطقة، خاصة اذا ما تحولت، وفقاً لتخوفات كيري، إلى دولة واحدة ثنائية القومية تلغي يهوديتها، التي يراها كيري، شرطاً ضرورياً، لتمارس إسرائيل الدور الجيوسياسي الذي من أجله جرى زرعها في المنطقة.
لكن الخطوة التي لم يكن الرئيس عباس (ولا الحالة الوطنية الفلسطينية) يحسب لها حساباً، هي قرار مجلس النواب الأميركي (5/1/2017) بأغلبية كبيرة، جمهورية وديمقراطية (342 صوتاً مقابل 80)، التنديد بقرار مجلس الأمن الدولي القرار 2334 والدعوة إلى سحبه، والتراجع عنه في المنظمة الدولية، داعياً إلى اعتماد المفاوضات الثنائية المباشرة سبيلاً وحيداً لحل النزاع، مطالباً الإدارة الأميركية الحالية والقادمة بإستخدام حق الفيتو (النقض) «ضد كل قرار مستقبلي في مجلس الأمن يكون مناهضاً لإسرائيل». وعلى ضوء ذلك يتوقع المراقبون أن يحذو مجلس الشيوخ الأميركي، في خطوة لاحقة، حذو مجلس النواب، لاسيما وأن الجمهوريين يهيمنون على هذا المجلس أيضاً.
* * *
مما لاشك فيه أن قرار مجلس النواب الأميركي، ومن بعده مجلس الشيوخ، لن يضعف القوة الأخلاقية والقانونية والسياسية لقرار مجلس الأمن الدولي. لكنه مع ذلك، يحمل في طياته إشارة واضحة، إلى طبيعة الإدارة الأميركية القادمة، وسياستها بشأن الصراع مع إسرائيل، خاصة بما يتعلق بموضوع الإستيطان، وهو محور الصراع الرئيس بين الشعب الفلسطيني، وبين الإحتلال، الذي يملك مشروعاً لإلتهام معظم الأرض الفلسطينية المحتلة، وزرعها بالمستوطنات والمستوطنين، وإغلاق الطريق أمام المشروع الوطني الفلسطيني، لصالح مشاريع بديلة لاتتجاوز حدود الإدارة الذاتية، بلا سلطة سيادية على الأرض والأجواء والمياه. ولعل قرار مجلس النواب، خاصة إلتقاء الأكثرية الجمهورية مع الأقلية الديمقراطية، والذي يمهد لقرار مماثل لمجلس الشيوخ، يحمل إلى القيادة الفلسطينية الرسمية وإلى عموم الحالة الوطنية الفلسطينية أن القادم على القضية الفلسطينية، مع إدارة ترامب، سيكون شديد القسوة، وأن الرهان على دور الراعي الأميركي الذي لعبته إدارة أوباما، دون أن توفر للجانب الفلسطيني أي مكسب وطني، بات رهاناً أكثر عقماً، وأن خطاب جون كيري، في مؤتمره الصحفي في 28/12/2016، كان مجرد كلام، لن ولم يؤثر في موازين الصراع وآلياته، وأنه سيغيب عن الساحة السياسية مع غياب صاحبه.
وبالتالي فإن هذا معناه، أن على القيادة الرسمية الفلسطينية أن تعيد قراءة المشهد السياسي، من بوابته الإسرائيلية، الموغلة في توسيع مشاريع الإستيطان، والإستخدام المفرط، والمفرط جداً للقمع، وصولاً إلى القتل بدم بارد لشباب فلسطين، والإصرار في الوقت نفسه على مفاوضات عبثية، وفقاً للشروط الإسرائيلية: مفاوضات تحت وطأة الإحتلال والحصار والقمع والقتل ومصادرة الأرض وتوسيع الإستيطان وتهويد القدس، وفرض شروط التعاون الأمني، وتقديم كل هذا بإعتباره «مفاوضات بلا شروط مسبقة» كما يدعي نتنياهو. ما يعني تحويل هذه المفاوضات بالشروط الإسرائيلية المسبقة، وبالتسليم الفلسطيني المسبق، إلى غطاء فلسطيني للسياسات الإسرائيلية اليومية كما تصوغها حكومة نتنياهو. وما يعني في الوقت نفسه، ضياع الحقوق الوطنية والقومية الفلسطينية في مهب الريح.
كما ان على القيادة الرسمية الفلسطينية أن تعيد قراءة المشهد السياسي من بوابته الأميركية: تهديد، يكاد يصبح أقرب إلى التنفيذ بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، كإعتراف أميركي ( بفتح الباب لإعترافات دولية أخرى ) بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل. وإعلان واضح وصريح بإعتبار الإستيطان حقاً من الحقوق الإسرائيلية «السيادية». بحيث يكون البناء (أي الإستيطان) في المناطق الفلسطينية المحتلة (بما فيها وفي مقدمها القدس المحتلة) كالبناء في تل أبيب، ونهاريا، وهرتسيليا، قراراً سيادياً إسرائيلياً كالقرار الفرنسي السيادي بالبناء في باريس، أو القرار السيادي البريطاني بالبناء في لندن، في عملية تزوير فاقعة ووقحة، للواقع السياسي، ومحاولة وقحة لفرض واقع سياسي جديد، يصبح فيما بعد أحد أسس «التسوية» الإسرائيلية الأميركية، التي يلوح نتنياهو وبينت بعناصرها الأولى، وهي كلها دون الحد الأدنى من الحقوق الوطنية والقومية المشروعة للشعب الفلسطيني. وبالتالي إن الرهان على العودة إلى مفاوضات جديدة تحت الرعاية الأميركية، وتحت الرعاية الفرنسية (مثلاً)
وفي ظل الوقائع المفروضة ميدانياً، من قبل الجانب الإسرائيلي، مدعوماً أميركياً ما هو إلا وصفة جيدة جداً للإنتحار السياسي، وتقديم الحقوق الوطنية والقومية للشعب الفلسطيني، هدية مجانية لإدارة ترامب وحكومة نتنياهو.
* * *
أهمية القرار 2334 سياسياً وأخلاقياً وقانونياً، لا ترقى إلى المستوى، بحيث يستطيع هذا القرار، بالصيغة الحالية أن يزحزح حجراً واحداَ في المستوطنات الإسرائيلية. أما قرار مجلس النواب الأميركي فهو غطاء سياسي، وفعال، لأجل مواصلة مشاريع التوسع الإستيطاني. ما يفترض موقفاً، بل برنامجاً، سياسياً بديلاً يأخذ بعين الإعتبار التبدلات السياسة الكبرى المقبلة على المنطقة وعلى القضية الفلسطينية وفي مقدمها وصول إدارة ترامب إلى البيت الأبيض. بيانات الإستنكار والشجب لا تكفي, وبيانات الإدانة لا تكفي. أما التأكيد على «حسن النوايا» من خلال إلتزام إتفاقات أوسلو بما فيها التنسيق الأمني مع سلطات الإحتلال في ظل السياسات اليومية، فمن شأنه أن يطرح علامات إستفهام حول جدوى هذه السياسة، وعن مستقبل السلطة الفلسطينية، موضوعياً، وفي عيون أبناء الشعب الفلسطيني، وعن المسافة التي تفصلها بين أن تكون «سلطة وطنية» أو أن تكون سلطة وكيلاً أمنياً للإحتلال. أما الرهان والتعويل على ردود فعل الدول العربية والإسلامية على إمكانية نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، فهذا يتطلب، قبل كل شيء، إعادة ترتيب العلاقة مع هذه الدول، في وقت يعرف فيه الجميع مدى التوتر الذي بات يحكم علاقة القيادة الفلسطينية الرسمية ببعض العواصم ، كالقاهرة وعمان، وغيرها. فضلاً عن ذلك لابد من دراسة موضوعية لحجم رد الفعل العربي والإسلامي المرتقب، إذا لم تكن الحالة الفلسطينية في مقدمة من يصوغ هذا الرد، وفي مقدمة من يتحمل مسؤولياته ووطأته وردود فعله، أياً كانت على المستوى الإسرائيلي أو على المستوى الأميركي. وفي السياق نفسه يفترض إن نقول أن المرحلة التي تعيشها الحالة الفلسطينية تمر في منعطف مهم وحساس وإستراتيجي، ومعالجة هذا المنعطف بحلول ترقيعية يشكل تعبيراً عن فقدان الإرادة السياسة وعن بلادة فكرية وأنكار للواقع، وغيبوبة سياسية.
كل الوقائع تقود إلى التأكيد أن الحل يكمن في العودة إلى البرنامج الوطني الفلسطيني، برنامج الإنتفاضة والمقاومة وتدويل الحقوق والقضية الفلسطينية، وطي ملف أوسلو وإلتزاماته.
ونعتقد أن اللجنة التحضيرية، التي إجتمعت في بيروت (10و11/1/2017) تتحمل مسؤولية تاريخية مميزة، ملقاة على عاتق القوى التي التأمت تحت سقفها. وإذا كان الهدف هو الوصول إلى آلية لمجلس وطني توحيدي، فلا بد من التأكيد أن أساس الوحدة الفلسطينية هو البرنامج الذي يضمن وحدة الشعب ووحدة حقوقه.
وبما أن المجلس الوطني هو أعلى سلطة، فإن إجتماع اللجنة التحضيرية يشكل العنوان الذي من شأنه أن يمهد للدورة التوحيدية للمجلس. وبين يدي اللجنة التحضرية ما يكفي من وثائق الإجماع الوطني ولديها من الوقائع السياسية الدامغة ما يؤسس لخطوة تاريخية تستعيد فيها الحالة الفلسطينية برنامجها الوطني الموحد.
عندها يمكن القول إن قرار مجلس الأمن الرقم 2334 بات يشكل سلاحاً في معركة تتطلب كل أشكال الأسلحة. أما خطاب جون كيري الذي جاء متأخراً، وخالياً من أية خطوات عملية، فأن التاريخ سوف يسجله عليه، كإدانة، أكثر من أنه سيسجله له. ففيه إعتراف واضح أن الولايات المتحدة هي التي توفر الغطاء للإحتلال ومشاريعه. وعلى الحالة الفلسطينية أن تقرأ هذا الإعتراف كما هو، وأن تتحمل مسؤولياتها بشأنه

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف