كان يمكن لهذه أن تكون أيام الصبا الجديدة لليسار الديمقراطي. يسار معتدل يطرح مقابل الشعبوية المتصاعدة سياسة اخرى: ذات رأي، اجتماعية، تقوم على اساس الحقائق، غير متطرفة، لا تطلق الشعارات. واقعية في التحليل، وطنية في الشعور، انسانية في الرؤيا.
كما يبدو هذا الان، فان اليسار يفقد هذه الفرصة وفي هذه الفرصة يفقد نفسه. فهو لا يعرض بديلا ثقافيا واسعا، بل العكس، يعزو لنفسه الثقافة السياسية الشعبوية باستثناء أنه يضيف اليها لونا أحمر. زيادة زائدة: فالشعبوية اليمينية، كما يعلمنا التاريخ، اكثر جذبا واغراءً بكثير من تلك اليسارية.
هاكم بعض النماذج البارزة من الزمن الاخير. في بريطانيا اختار أعضاء حزب العمل، الليبر، جيرمي كوربن رئيسا. كوربن، رجل اليسار المتصلب والدوغماتي (صديق بوتين وفي الماضي هوغو تشفيز) يقود حزبه من موجة الى اخرى. في استطلاع الراي العام يتخلف الليبر بـ 18 في المئة وراء الحزب المحافظ. ومؤخرا تكبد هزيمة نكراء في انتخابات فرعية في محافظة كانت اشتراكية لعشرات السنين.
كوربن هو السياسي الاقل عطفا في بريطانيا حتى اقل من رئيس الحزب الوطني UKIP - "حزب الاستقلال البريطاني" – الذي كان في الماضي صغيرا والان يهدد باحتلال مكان الليبر. فالافكار الاجتماعية والاقتصادية لكوربن وزملائه وللناطقين بلسان UKIP تتطابق في مواضيع كثيرة. هؤلاء واولئك أيضا ضد "المؤسسة"، ضد "النخب"، ضد "البنوك"، وبنصف فم ايضا ضد اليهود. يجر كوربن الليبر الى هوة ساحقة، يجعله حزبا "يسير نحو مقبرة التاريخ"، على حد قول المحللين البريطانيين.
في هولندا، قسم من الاشتراكيين سقطوا في الهوة منذ الان. فحسب الاستطلاعات من المتوقع للحزب الشعبوي العنصري بقيادة خيرت فلدراس ("حزب الحرية") ان يسحق حزب العمل في الانتخابات في 15 آذار. احزاب يسارية اخرى ايضا من غير المتوقع أن تحشد القوى. وفي سوء وضعهم، تبحث الاجنحة الاكثر راديكالية من اليسار عن إقامة تعاون سياسي مع حزب فلدراس – إذ حسب ما يقوله احد قادة المعسكر الاشتراكي، باستثناء العنصرية فاننا نقول الامر ذاته. "الامر ذاته" – عن الحاجة الى تخريب النخب، خنق الاغنياء، اعادة توزيع الثراء الوطني والاحسان للشعب الهولندي. والخلاف هو فقط على تعريف الشعب الهولندي، فهل ينطبق هذا ايضا على المهاجرين غير المسيحيين.
الخطأ ذاته يرتكبه الحزب الاشتراكي الفرنسي، الذي طرح كمرشح للانتخابات للرئاسة في نيسان القريب القادم بنوا هامون، سياسي من اليسار الشعبوي المتطرف وذي الافكار غريبة الاطوار. في الخطاب الاجتماعي – الاقتصادي يكاد لا يكون فرق بين الحديث الحماسي لهامون وبين برنامج الجبهة الوطنية بقيادة لا بين. تحريض وخيالات تسيطر هنا وهناك. ولحظ فرنسا، لا يزال فيها وسط – يمين مستقل وسوي العقل، يرد الحرب بالحرب على الشعبوية.
ومن اوروبا الى أمريكا. الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة أجرى مؤخرا انتخابات لمنصبه رئيسه. بفارق اصوات قليلة انتخب توم فريز، وزير العمل السابق في إدارة اوباما، الذي صنف كـ "مرشح المؤسسة". ومع انتخابه عين فريز نائبا له من تنافس ضده كيت أليسون. لاليسون كل المزايا لقيادة اليسار نحو الضياع: فهو شعبوي في اسلوبه، ثوري مزعوم في خططه الاقتصادية، محرض ومقصي في دعواته وذو أراء لا سامية. في احدى محاضراته شبه هجمة الارهاب في 11/9 الى الاستفزاز النازي لحرق مبنى الرايخستاغ. وعلى الرغم من ذلك أعلن فريز بان اليسون سيكون "وجه الحزب الديمقراطي". الويل لذاك الوجه؛ فهل معه ستنتصرون؟
في النماذج السياسية الحاضرة التي طرحت هنا وجد تعبيره فكر انتخابي يقول ان شعبوية اليسار وحدها يمكنها أن تنتصر على شعبوية اليمين. واذا لم تنتصر فعلى الاقل ستجد لها معه لغة مشتركة، لان هذه هي لغة يفهمها ويقدرها "الشعب". لغة التحريض والكراهية.
وإذ يفكر اليسار هكذا، فانه يخطيء خطأ وجوديا. فالرد على التطرف ليس تطرفا موازيا. والرد على ثقافة التحريض ليس ثقافة تحريض مضادة. من يختارون الشعبوية عديمة اللجام لليمين القومي المتطرف لن يغريهم التأييد لتقليده اليساري. بالنسبة لهم فانهم يفضلون الاصل. الكذب لا يهزم الكذب. أما الحقيقة فأحيانا تنتصر بالفعل.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف