- تصنيف المقال : الجالية الثقافي
- تاريخ المقال : 2013-08-03
في المشهد الأول من وثائقي «حفنة تراب» (2008)، تصطحب المخرجة الفلسطينية ساهرة درباس (1964) الحاج محمد حجير وتجوب معه شوارع قريته طيرة حيفا التي غادرها اثر النكبة. تسأله: «كيف تصف لنا مشاعرك؟» يحبس الرجل دموعه، ويحشرج صوته، ويكتفي بالقول: «أشعر بأني غريب عن بلدي». تختصر كلمات اللاجئ الفلسطيني المأساة المستمرة التي يعيشها أبناء وطنه.
في مشهد آخر، تكرّم المخرجة والدها جمعة درباس عندما يظهر وهو يغني العتابا الفلسطينية، قبل أن يتوفى أثناء تصوير الفيلم، ويدفن وحيداً في طيرة حيفا، من دون أن يحضر جنازته أحد من أقاربه المشتتين في المنافي البعيدة.
في مجمل أفلامها الوثائقية، تنطلق ساهرة درباس المقيمة في القدس، من تجربتها الشخصية التي كتبت عنها قائلة: «رسم القدر لوالدي أن يرحل وحيداً، فحتى في جنازته لم يستطع أهله الحصول على تصريح لحضور جنازته. أدركت حينها الصراع والازدواجية الذي عاشها أبي، ويعيشها كل لاجئ أينما كان في الوطن، أو المنفى والشتات». تلخص أفلامها حكاية الجيل الذي تنتمي إليه، كما علاقة الأجيال الجديدة من اللاجئين، مع وطنهم المحتل من جهة، وظروف وتفاصيل حكاية لجوئهم الطويلة من جهة أخرى. مشاهد أفلامها محاولات جادة للبحث عن أجوبة لجملة من الأسئلة التي تتناقلها الأجيال الفلسطينية حول المعنى الحقيقي للوطن والهوية، والذاكرة الشفوية التي تضيع مع موت الأجداد الذين عاشوا أحداث النكبة، ونقلوا تفاصيلها إلى أبنائهم وأحفادهم. تنتقل درباس في «حفنة تراب» بين طيرة حيفا، ورام الله، والأردن، ومخيم اليرموك جنوبي دمشق، حاملة معها بعضاً من تراب طيرة حيفا الذي تهديه لأفراد عائلتها ومعارفها الموزعين بين بلاد الشتات، وترصد بكاميرتها ردود فعلهم حيث يختلط الحزن والفرح. هم يلمسون ويشمّون تراب بلدتهم. في خلفية المشهد، تفرد درباس مساحة للمسنين كي يستعيدوا بعضاً من ذكرياتهم الجميلة عن السنوات التي عاشوها في وطنهم، قبل أن ينسلخوا منه. رغم مرور 65 عاماً على النكبة، يؤكد جميع الأجداد والجدات على رغبتهم في العودة إلى طيرة حيفا. وفي حال موتهم في بلاد الشتات الواسعة، «حطو هالتراب تحت راسنا بالقبر خلينا نشم ريحة بلادنا».
اعتمدت درباس في أول أفلامها الوثائقية «غريبة في بيتي» (2007) على التاريخ الشفوي. عادت مع ثمانية لاجئين مقدسيين في زيارة إلى القدس، بعد مرور 40 عاماً على النكسة. ترصد الكاميرا تفاصيل رحلة العودة، والنبش في الذاكرة الحية التي ترفض الاستسلام. مفارقات موجعة، أكسبت الفيلم طابعاً إنسانياً مؤثراً، عندما تحول اللاجئون المقدسيون إلى زوار لبيوتهم العتيقة في أحياء البقعة والطالبية والثوري والقطمون والمصرارة، وفي حارة المغاربة التي احتلها الكيان الصهيوني خلال النكبة، وهدم بيوتها ليوسع ساحة ما يعرف بحائط المبكى. كثفت المخرجة جهودها في البحث عن الوثائق والصور الفوتوغرافية، وعرضها ضمن مشاهد الفيلم، رغبة منها في كشف كذب قادة الكيان الصهيوني حول ملكيته التاريخية لأحياء القدس الغربية. يتحول الفيلم تدريجاً إلى مواجهة بين اللاجئين الفلسطينيين وعدد من المستوطنين اليهود الذي يسكنون أحياءهم اليوم. يدخل الفلسطينيون بيوتهم أمام ذهول ساكنيها اليهود. يصفون الغرف ومكوناتها، ويشرحون أدق تفاصيلها التي ما زالت على حالها. ترصد الكاميرا حشرجة الأنفاس، والدموع المحبوسة التي يحاول المقدسيون الثمانية كبتها أمام من اغتصب حقهم وماضيهم وذكرياتهم وحاضرهم، وحوّلهم إلى لاجئين في وطنهم. حوار سريع تجريه المخرجة مع المؤرخ والمهندس الإسرائيلي دافيد كرويانكر الذي وضع كتاباً حول تاريخ منازل الفلسطينيين في أحياء القدس القديمة، يؤكد صحة المعلومات حول ملكيّة اللاجئين المقدسيين للبيوت.
محاولات عديدة قامت بها ساهرة درباس للعثور على ناجين من مجزرة دير ياسين 1948. النتيجة كانت حوارات مطولة مع ناجين قدموا شهادات حية عن أبشع جرائم العصابات الصهيونية في المناطق الفلسطينية في ذلك الوقت. تحولت شهادات الحاج أحمد الأسعد، ومحمد رضوان، وعبد القادر زيدان، ووطفة جابر إلى وثائقي حمل اسم «قرية ومذبحة دير ياسين» (2012).
إلى جانب عملها في الأفلام الوثائقية، نشرت ساهرة درباس عدداً من الدراسات التي وثقت فيها تاريخ ثلاث قرى فلسطينية دمرتها آلة الحرب الصهيونية هي طيرة حيفا، وسلامة، والبروة. كما تواصل عملها في الإخراج لصالح فضائية إيطالية. تعيش درباس اليوم في القدس مع زوجها الإيطالي الذي يعمل صحافياً. أثارت أفلامها ردود فعل سلبية لدى الجاليات الإسرائيلية حول العالم، خصوصاً لدى عرضها في المهرجانات العالمية. هذا ما يبرّر مصادرة الجائزة التي حصلت عليها في «مهرجان سانتياغو» في إسبانيا عن فيلمها «غريبة في بيتي» عام 2009 بعد جملة معوقات اختلقها الاسرائيليون لدى اللجنة المنظمة.
ِ