بعد هدوء العاصفة حول مقال يوسي كلاين عن الصهيونية الدينية (13/5)، ورغم إنجازه الواضح، يجب أن نعود ونؤكد على أنه لا يمكن، الآن، إخلاء المستوطنات. ورغم ذلك، فان موضوع اخلاء المستوطنات كان وما زال الفرضية التي تستند إلى ضعف في النقاش لدى اليسار، وهي التي تحسمه قبل بدئه. الإخلاء، الذي لن يصل أبداً لكننا جميعا نؤيده، هو بمثابة أمر سياسي وضروري ومفروغ منه وضائع – قصة يرويها اليسار لنفسه منذ زمن بعيد من أجل الاستمرار في التسوق بدون ازعاج في المجمع التجاري في الوقت الذي يقوم فيه الولد بثقب الجماجم في الخليل – حيث إن البديل الآن هو هزة نهاية العالم. ولكن الصهيونية الدينية ليست هي سبب ذلك. ايضا قبل نصف يوبيل تقريبا، في زمن خداع "أوسلو"، كان من المشكوك فيه القيام بذلك. كان من المؤكد أنه لا يمكن القيام به، ومثل كل شيء، سبب ذلك هو الاقتصاد. المعطى الاول الذي يجب أن يواجهه من يطمحون الى اخلاء المستوطنات هو دور "إعداد الأرض" الأكبر منذ العام 1948 واستقرار وترسيخ اقتصاد اسرائيل قبل احتلال العام 1967: النكبة، منع عودة لاجئي الحرب الى بيوتهم واطلاق النار عليهم، قانون أملاك الغائبين، مصادرة الاراضي ممن بقوا، وتقسيم الغنائم على المنتصرين. مقابل عُشر هذه الاراضي، التي كانت فعلياً في أيدي الحاضرة اليهودية قبل 1948، يصعب التفكير في حقنة تحفيز سخية أكثر للسوق من غنيمة الحرب، والتي ظهرت منها طبقة أصحاب الاملاك، والتي شكلت الرافعة الضرورية للاقتصاد المزدهر وطبقة متوسطة مستقرة في دولة ومجتمع ولدا الآن. موجات الهجرة الكبيرة لليهود من الدول الاسلامية تم اعتبارها من قبل طبقة اصحاب الاملاك الجديدة قوةَ عمل رخيصة، واستكملت الصورة الطبقية الاقتصادية. وليس غريبا أنه بالنسبة لطبقة العمال التي نشأت من لا شيء، لم تكن ثمة حاجة الى وقت طويل من أجل فهم هذه الصورة. كانت واضحة، وايضا في المرارة التي بدأت في الهامش لا يوجد أي شيء مفاجئ. وعندها تم احتلال "المناطق" في العام 1967. استمرت حركة الاستيطان في "المناطق" المحتلة في العام 1967 بفعل الاقتصاد الاسرائيلي الذي تأسس على املاك احتلال 1948. هذه البنية الاقتصادية للدولة اليهودية اعتبرت أن التعاون بين اليسار الاسرائيلي لشمعون بيريس ومهندس النكبة، يغئال ألون، سيكون مع احابيل "غوش ايمونيم"، وليس مع منظمة "ماتسبين" مثلا. الآن يسمون هذه الطريقة طريقة متسليح، لكن الاسم هو الشيء الوحيد الذي تغير في الطريقة التي أقيمت بها الدولة نفسها. استدارة اليسار هذه منذ صعود "الليكود" الى الحكم، والذي وجد نفسه فجأة متجندا بكل قوته لمشروع إخلاء المستوطنات، بدأت فقط عندما تبين أن استمرار صياغة "دولة اسرائيل 2.0" في "المناطق" المحتلة في العام 1967، من شأنه أن يكلفها عقارات احتلال 1948 الغالية. بالنسبة لمعظم ابناء "إسرائيل الثانية" (هذا المصطلح المنسي له أكثر من تفسير) فان "معسكر السلام" ليس سوى اسم سري لاستراتيجية سياسية من اجل تعزيز املاك غنائم 1948 من خلال استغلال الطبقة الاسرائيلية الدنيا ومصادرة املاكها في مناطق احتلال 1967. هكذا تبدو لهم خطة "اعادتهم" الى "اسرائيل الشرعية"، أي الى مكانتهم قبل هذا الاحتلال – مواطنين من الدرجة ب، بدون املاك. ويستطيع من يقلقون، الآن، من الكراهية تجاه اليسار التساؤل إذا كانت لهذه الكراهية مبررات أخرى باستثناء "التحريض". المشكلة الاقتصادية في اخلاء المستوطنات ليست مسألة تدفق الاموال، بل مشكلة بنيوية تدخل مباشرة الى عمق منطق الاقتصاد الذي تأسست عليه السيادة الاسرائيلية منذ البداية: الوعد بالبيت والرفاه لكل يهودي، هذا الوعد الذي يتعلق تطبيقه الى الأبد بـ "اعداد الاراضي". يتآمر اخلاء المستوطنات على الطريقة الوحيدة من اجل تحقيق هذا الوعد، الذي هو في مركز الحلم الصهيوني، ويلغي الأفق الضروري الذي على ضوئه انتظمت وتنتظم الجماعية اليهودية. بدون هذا الافق، البديل الذي يتمثل باخلاء المستوطنات هو امر لا يمكن تحمله. المغزى المباشر هو مجتمع فيه طبقة أسياد اصحاب أملاك ومن يخدمهم ممن ليس لهم أملاك، ويعيشون صراعا دائما فيما بينهم حول المبلغ النهائي للأراضي والمصادر. في نهاية المطاف هذا هو الوضع "الطبيعي" لكل مجتمع رأسمالي حديث. اذا كان اليسار الاسرائيلي يطمح الى ذلك، والذي توجهه الحاجة الى تعزيز أملاكه من غنيمة 1948، فمن المنطقي القول في هذه الظروف "خونة". من يعتقد مثلي أن اقوال كلاين تحتاج الى التعاطي معها بجدية، يجب أن يفكر في التالي: الصهيونية الدينية، المسيحانية، تدخل الى الفجوة العميقة الجوهرية التي تحت مشروع الصهيونية العلمانية. هذه الفجوة هي الوعد الذي فيه مفارقة في مجتمع يهودي "سليم"، يكون جميع اليهود فيه أحراراً ومتساوين، إلا أن هذا بالضبط معاكس لـ "الطبيعية" قياسا مع المجتمعات الحديثة التي نشأت فعليا. بمعنى أن المجتمع الحديث الرأسمالي العلماني – المجتمع الطبيعي هو مجتمع طبقي، من خلال تشكل الطبقات، بناء على السيطرة على غنائم الحروب وتوزيعها، وعلى الاغلب، بناء على المفتاح العرقي. من هنا يتبين أن الحل المطلوب لهذا التناقض الجوهري بين "الطبيعية" وبين الأفق المثالي للدولة اليهودية هو مجتمع يهودي يكون فيه جميع اليهود اسياداً. هذا الحل مطلوب من داخل الافق المثالي للصهيونية العلمانية وليس الدينية. وعندما تم فتح الفجوة العميقة جاء الجواب الوحيد من الصهيونية الدينية: المُخلص. من السهل الاستخفاف بذلك، والاصعب هو طرح أفق سياسي يواجه التحدي الاساسي. الدرس الذي تعلمه اليمين من صورة الحاخام ميلوفوفيتش، الذي يحث على عدم اليأس الذي يتسرب الى آلاف المؤمنين "بالايمان أكثر" الى أن يأتي المخلص بجسده المنهك، ينافي كليا الاستخفاف لدى العلمانيين في اليسار. الرجل العجوز على الحمار الابيض هو مجرد رمز. فعليا، المخلص يتجسد في العمل الايماني الجماعي. هذا هو المغزى الذي يتواجد فيه المخلص كل يوم في حياة الشعب، على مدى سنوات الشتات الطويلة والسيئة، وبالشكل ذاته الذي يوجد الآن، حتى لو كان التعبير مختلفا في نظرية الحاخام كوك والمعاهد الدينية. كل خطوة سياسية راديكالية، تغير شيئاً بشكل فعلي، مثلها مثل الشخص الذي يتعلق ببالون يصعد الى أعلى، والسؤال هو هل يجب التنازل والقفز في الوقت الذي يمكن فيه البقاء على قيد الحياة بعد السقوط، أو الاستمرار في الصعود الى أن تتغير ظروف الجاذبية ويتحقق الانتصار الكامل؟ هذا التفكير هو أبعد من خاطئ، وهو يميز مثلاً أحد الطرق الاجتماعية الناجحة، اذا لم تكن الاكثر نجاحا: الرأسمالية. هكذا كانت الديناميكية في صناعة الاعتماد التي تسببت في ازمة 2008، حيث إنه رغم تضرر الاشخاص العاديين منها تبين لمن هم في الاعلى أن الرهان كان جديرا بالفعل. رهان آخر أثبت نفسه وهو تدمير العراق من قبل لوبي النفط التابع للمحافظين الجدد الأميركيين في العام 2003، وفتح حرب الـ 30 سنة ضد الاسلام. الشرق الاوسط في الوقت الحالي، ومثله اوروبا التي تتمزق تحت وطأة الهجرة، كانت اهدافاً واضحة تحققت خطوة تلو الاخرى. تحولات التاريخ كثيرة، و"حباد" ايضا تعتبر الآن حركة كبيرة وقوية، أقوى مما كانت في زمن الحاخام المُخلص، وبدون حاجة الى وريث يحتل مكانه. القناعة هي التي تقرر مصير الشعوب، الى الأفضل أو الاسوأ. حاخام معهد "يوسف حي" في المستوطنة المتطرفة يتسهار في "السامرة"، اسحق غينزبورغ، هو مؤيد لـ "حباد"، وهو أميركي تدين وهاجر الى اسرائيل في العام 1965. درس الرياضيات والفلسفة في جامعة شيكاغو، والآن هو من مؤسسي النظرية الاكثر تخويفا في الحلبة السياسية بين النهر والبحر. معظم الاسرائيليون يعرفونه على أنه مؤسس النظرية الدينية "تبارك الرجل"، تقديرا للقاتل باروخ غولدشتاين. وبتأثير من نيتشه، فان نظريته مخصصة للحديث عن اختلاف الجسم اليهودي البيولوجي عن جسم الأغيار، بفعل الكمال الالهي الذي يوجد في هذا الجسم عن طريق وحدة الروح والعمل. فوق الفجوة العميقة التي يتم نفيها، لمجتمع الاسياد والخدم "الطبيعي"، تضع الصهيونية الدينية العمل الجماعي الايماني: الايمان بأنه يمكن المناورة، الآن، ايضا مثلما تمت المناورة في العام 1948 من اجل الجميع، كي لا يكون أي يهودي ناقص. الايمان معاً كرجل واحد بأن الانتصار ممكن وقريب، والايمان هو شرط ضروري للانتصار. عندما يصمم اليسار على عدم امكانية هذا الانتصار، وعدم أخلاقيته، تكون هذه الخيانة الاصعب والاخطر من الحاق الضرر بالجسم اليهودي: هذا هجوم مباشر على الشعب وتاريخه وترك روح العمل الايماني. لاعتبارات الفائدة المتدنية في افضل الحالات، والأنانية على حدود الشيطانية في اسوأ الحالات، ابتعد اليسار عن العمل الجماعي الايماني الذي ارشد الشعب آلاف السنين في طريقه الى الانبعاث الخالد. وبسبب أن اليسار بقي مخطئا، فهو يقوم بتوجيه سلاحه ضد العمل الايماني المستمر ساعيا الى اختطاف أفق انبعاث الشعب مقابل فتات بائس مثل الاعتراف الدولي والتطبيع والمصالح البرجوازية الصغيرة الاخرى. أكثر من المواصلات العامة في ايام السبت، أو الزواج المدني، لا يوجد شيء يعبر عن الخيانة الجوهرية مثل السعي الى اخلاء المستوطنات، أي ترك الوعد المثالي في البيت والارض لكل يهودي، لصالح البديل السيئ الذي لا يمكن تحمله لمجتمع الاسياد العلمانيين اصحاب العقارات وخدام يهود متدينين بدون عقارات، كمحطة أخيرة في التاريخ اليهودي. الاستنتاج الذي لا بد منه هو الضم. في أيار 1999 كان من المفروض اخلاء آخر جنود الجيش الاسرائيلي من الدولة الفلسطينية الجديدة حسب اتفاقيات اوسلو، بناء على الاتفاق الدائم الذي تم التخطيط للتوقيع عليه ولم يوقع. ولا يمكننا أن نعرف أبدا كيف كانت الامور ستتطور بدون باروخ غولدشتاين ويغئال عامير، لكنّ هناك أمرا واضحا وهو أنه لا رابين ولا بيريس قاما باخلاء أي مستوطنة. بعد سنوات العمليات بين 1994 – 1997، التي قتل فيها 162 اسرائيليا وأصيب العشرات، بدا في نهاية ذلك العقد أن المقاول الثانوي، ياسر عرفات، من تونس، شعر بالشوكة التي تقترب منه، وفي السنوات الثلاث التالية حتى اندلاع الانتفاضة الثانية انخفض عدد العمليات الى اربع عمليات قتل فيها ثلاثة إسرائيليين. وفي جميع الحالات بقيت المستوطنات وتوسعت. ثمن الدم ارتفع منذ ذلك الحين. في البداية للاسرائيليين والفلسطينيين معا، وفيما بعد بفضل خدعة "الانفصال" اللافتة، لا سيما للفلسطينيين. ميزان الموت الجديد لم يعد يضر المستوطنات، أما سنوات النضال غير العنيف العشر في المناطق ج من اجل استعادة الاراضي المصادرة فأوضحت أن عدم العنف ايضا لا يحقق الكثير، باستثناء رصاصة معدنية مغطاة بالمطاط بين الفينة والاخرى. لقد قضى نتنياهو على حركة مقاطعة الـ بي.دي.اس في الصيف الماضي. العناوين حول المقاطعة في وسائل الاعلام الاسرائيلية تظهر بين الفينة والاخرى من اجل "الدعاية" الداخلية. كل من استخف بنتنياهو وتملصه من "محادثات السلام"، ليعرف أنه يواصل، بإخلاص، للمصدر الذي هو خدعة "اوسلو"، التي تقول إنه لا يوجد شريك. إخلاء المستوطنات لم يكن على جدول العمل بشكل حقيقي. ومع الدول العربية الديكتاتورية والانتهازية التي تقف الواحدة تلو الاخرى الى جانب الدولة الفلسطينية في لعبة التظاهر "الحرب ضد الإرهاب الاصولي"، فان الأمل الفلسطيني الاخير للحصول على الدولة هو، لشدة العبثية، خبير في احابيل المنافسة التجارية من النوع د، ويجلس في البيت الابيض، ويؤيد تفوق العرق الابيض. ليس هناك سبب للاعتقاد بأن طريقة "متسليح" التي على أساسها نشأ المجتمع الاسرائيلي، نموذج 1948، ستختفي من العالم، ولو بسبب عدم وجود طريقة اخرى. بعضنا يشاهدون الحاخام غينزبورغ وأتباعه، ويشاهدون الآمال وهي تتبخر بالدم والنار والدخان المتصاعد من محاضرات الحديد والروح للمملكة الاثنوقراطية اليهودية من يتسهار. دانييلا فايس هي امرأة لامعة، تقول لكل من يريد الاستماع إن حدود الدولة اليهودية هي من النيل الى الفرات. ليس هناك سبب للافتراض مسبقا أن هذا البالون الذي نتعلق به لن يستطيع الاستمرار في الصعود. المستقبل كله أمامنا الى حين قدوم المُخلص. ابرتهايد، ترانسفير، جدران كهربائية – كل السبل متاحة، بناء على الظروف الممكنة بالطبع، لكن القدرة موجودة والنفس مستعدة. إن من يخشى من هذه السيناريوهات فان خياره هو النضال من اجل الديمقراطية بين البحر والنهر، من قبل جميع الاطراف. يجب البدء من هناك. اخلاء المستوطنات لن يتم طرحه على الطاولة أمام حلم الأفق، حتى الأفق الذي يغضب دانييلا فايس، الازرق الذي على شاطئ البحر، مثل النجوم في السماء. سأكون سعيدا لو تبين أنني مخطئ، بعد خمسين سنة مثلا. لا يمكن معرفة ما سيحدث بعد يوم.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف