- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2017-08-08
بعيداً عن وصف الإجراءات التي تم اتخاذها من قبل السلطة الفلسطينية تجاه قطاع غزة من حيث الهدف أو التوصيف التي يطلقها طرفا الانقسام في الساحة الفلسطينية، إلا أنه يمكن قراءة هذه الإجراءات ضمن التحولات الكبرى في الاستراتيجيات على المستوى الفلسطيني، والتي باتت معها المصطلحات المعروفة عاجزة عن وصف وتفسير المشهد وتعقيداته.
ما يحدث يمكن قراءته في سياق مراحل التحول التي ضربت بعمق الفكر السياسي الفلسطيني في مواجهة السياسات الإسرائيلية التي تستهدف بوضوح تهديد الوجود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية بخطوات متتالية ومتسلسلة.
النقلة الأولى في هذا الإطار تجسدت في نقل المشروع الوطني من مرحلة التحرير والعودة إلى مرحلة التسوية كخطوة أولى، ثم الانتقال من التسوية لمرحلة التصفية، في حين يسعى الاحتلال الإسرائيلي، مستغلاً المتغيرات الكبرى في الإقليم العربي والدولي، للانتقال إلى مرحلة الاجهاز والتبديد وإلغاء الهوية الفلسطينية، ونسف القدرة لدى الفلسطيني على التحدي من خلال سلب باقي الأرض، وتدمير البنى الاجتماعية، ودفع الفلسطيني باتجاه بيئات مختلفة ومنفصلة.
ويواجه الوضع الفلسطيني بعد قرن من الصراع جدلية الشرذمة والتفكك في مواجهة نظام عنصري استعماري إحلالي استيطاني. والواقع المأزوم في المشهد الفلسطيني، تحولت معه الوحدة الفلسطينية إلى شرذمة وانقسام، وبات الشرط التاريخي لجوهر وديمومة الصراع كما يراه أدوار سعيد (الوجود الفلسطيني على الأرض) مهدداً بفعل الأداء السياسي للفلسطينيين أنفسهم من ناحية، وبفعل الإجراءات والممارسات الإسرائيلية من ناحية أخرى. اما الشتات الفلسطيني فأضحى، أكثر من قبل، عرضة للنفي الدائم وهو مرشح للانحسار في جيتوهات جديدة تنفي الطابع السياسي للفلسطينيين. هذا الواقع المأزوم الذي يشهده الحقل السياسي الفلسطيني تكمن مرجعتيه في ثلاثة توصيفات هي محنة ومأزق وعجز.
وتحارب حركة فتح بكل الوسائل لتخطي محنتها وفشلها في إدارة المشروع الوطني منفردة، ودخولها في عملية تسوية بدون مرجعية قانونية أو دولية لهذه العملية، وموافقتها على المفاوضات الثنائية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية المنحازة للاحتلال الإسرائيلي، حيث استطاعت إسرائيل من خلال هذه التسوية استنزاف القدرة الفلسطينية على الفعل، مما أدى لدخول المشروع الوطني برمته إلى متاهة الاجتهادات الشخصية وعبثية الأداء السياسي الفلسطيني. إضافة لذلك فان الخلافات الداخلية في الحركة والتنازع داخلها انعكس على القضية الفلسطينية والموقف منها، خصوصا الموقف العربي المنقسم تجاه الصراع الداخلي في حركة فتح ما بين رئيس السلطة محمود عباس ومحمد دحلان.
اما حركة حماس فهي مازالت غارقة في مأزق فوزها المفاجئ بالانتخابات التشريعية الثانية عام 2006، وتشكليها لاحقا للحكومة العاشرة منفردة، حيث نجمت عن فوز حماس في الانتخابات أزمات نتيجة مواقف الحركة الإيديولوجية من الصراع مع إسرائيل ورفضها لعملية التسوية والأساس الذي قامت عليه آنذاك، فقد فُرض الحصار على حكومة حماس، وتم عرقلة عملها للضغط عليها بغية الرضوخ للمطالب الدولية وعلى رأسها الاعتراف بإسرائيل، وانقسم الشارع والمؤسسة الفلسطينية بين مؤيد ومعارض، وتوتر ونزاع مُسلح لتقوم بعدها حركة حماس، في منتصف حزيران 2007، بالسيطرة على القطاع.
وبعد فشل التحركات ودعوات الحوار التي سعت لوقف الاشتباكات التي اندلعت بين حماس من جهة والأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية ولحركة وفتح من جهة اخرى، دخل الوطن بشقيه والمشروع الوطني معه في مأزق كبير لاتزال تداعياته وفصوله مستمرة حتى اللحظة. وفي حين تحاول حركة حماس جاهدة التخلص من مأزق، فانها تعود وتغوص في مآزق أعمق. ولعل أبرزها الارتهان لحضانة دول إقليمية ومحورية، ثبت بالممارسة أن حضانتها مضرة بالواقع الفلسطيني وخصوصا في أعقاب الربيع العربي والموقف منه. فعلى سبيل المثال كان لموقف حماس من الأحداث في مصر تداعيات على الحركة وواقع الحياة في قطاع غزة، إضافة لمواقفها من إيران والتذبذب في العلاقات معها عقب مساندتها للمعارضة السورية، وكذلك مواقف الحركة مع تركيا وارتداد هذه العلاقة على موقف العديد من الدول العربية من الحركة وخصوصا مصر والسعودية.
وترافق هذا الوضع مع عجز النخبة السياسية في اليسار الفلسطيني في لملمة شتاته وتوحيد صفوفه لتشكيل تيار ثالث قادر على الخروج بالحالة الفلسطينية من حالة الاستقطاب السياسي بين حركتي فتح وحماس.
ووضع عجز الحركات السياسية اليسارية هذه الحركات في موقع المتواطئ مع حالة الانقسام، والمستفيد من استمراره للمحافظة على مواقع قيادتها الحالية.
إزاء ذلك بات مطلوباً إعادة طرح تساؤلات بعض الخبراء السياستين الصعبة في الملف الفلسطيني حول ما إذا كانت فتح حاملة للمشروع الوطني ام مدمرة له، وما إذا كانت حماس حاضنة المقاومة أم مستفيدة منها، ومدى القدرة الفلسطينية على تشكيل تيار ديمقراطي ثالث قادر على انتشال الحالة الفلسطينية مما يعتريها من أزمات وإشكاليات باتت عصية على الحل؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات الصعبة في الحالة الفلسطينية، بعيداً عن لغة التشنج والتعصب والانغلاق تستلزم اجراء مراجعة نقدية لمسار ومآلات الحركة الوطنية الفلسطينية خلال العقود الثلاثة الأخيرة. مراجعة لا ترتكز إلى لغة التبرير والمجاملات، بقدر ما تستند إلى المجابهة والانكشاف الداخلي حتى يتم تجاوز كل بواطن الخلل التي أصابت المشروع الوطني ودفعته إلى التراجع والانحسار. مراجعة حقيقة تعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية أخلاقية تلامس كل الضمائر الحية في العالم. مراجعة تجنبنا التدمير الذاتي الذي نمارسه بحق أنفسنا في ضوء هيمنة مفاهيم الاقصاء والتهميش، وسيادة العنتريات الحزبية ذات الطبيعة القبلية والجهوية السائدة في منهج التعامل لدى الأحزاب في فلسطين.
إن جوهر الخروج من هذا النفق المظلم للمشروع الوطني ومستقبل الحقل السياسي الفلسطيني يكمن اساسا في الاعتراف بالخسارة، ولكن مع طرح التساؤل المركزي والهام حول كيفية التعامل مع هذه الخسارة. ومن هنا لابد من العودة إلى استراتيجية البدايات أو البدء من الأسفل، بمعنى أن المطلوب الأن هو الامتناع عن كافة أشكال التقييد السياسي في الحالة الفلسطينية، وكل ما يعزز السلوك الإسرائيلي، وإعادة الاعتبار لروح التحدي والتضحية واستعادة القيم الوطنية التائهة، وارباك العدو بكشف طابعه العنصري، والخروج من حالة التشوه الاستعماري.
ان الوضع الفلسطيني الآن بات أمام احتمالين، فإما إعادة الترميم والانبعاث من جديد من خلال مراجعة نقدية لمسار العمل السياسي الفلسطيني وتعزيز الصمود الفلسطيني على الأرض ضمن رؤية ومشروع وطني فلسطيني جامع للكل الفلسطيني، كما وينبغي في هذا المشروع ان يعمل ايضاً على استعادة دور الشتات الفلسطيني مرة أخرى، واستنهاض دور الجماهير في الأرض المحتلة وتعزيز صمودهم، واحداث تحول حقيقي في انتقال الوجود الفلسطيني من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل، وتصعيد الكفاح ضد نظام الفصل العنصري الاسرائيلي، وإما مزيد من التراجع وصولاً إلى الذوبان والتلاشي إذا ما تمكن الإسرائيلي من الاجهاز والتبديد، خصوصاً في ضوء إعادة رسم خارطة المنطقة على أسس مناطقية ومذهبية وطائفية، وحينها قد يصبح تعبير فلسطيني أثراً من الماضي، فنحن الان أمام مفترق طرق وعلينا الاختيار.
* محلل سياساتي في الشبكة، ومدير تحرير مجلة تسامح.