اذا كانت هناك كلمة واحدة بالعبرية أمقتها فهي كلمة "صهيونية". هذه كلمة مليئة بالمعاني وفارغة من كل مضمون. كلمة يمكن دسها في كل جملة يوجد فيها فضاء فارغ. وهي جيدة لكل سياسي ليس ما لديه ما يقوله، ويمكنها تحليل كل شيء وتحريم كل شيء. هي جيدة لكل مخادع وكل مخادعة. قبل حوالي ثلاثين سنة قال المفكر البريطاني الدكتور صموئيل جونسون إن "الوطنية هي الملاذ الاخير للوغد". في ايامنا واماكننا يمكن قول ذلك عن الصهيونية.
اذا كان الامر كذلك فما هو معنى الكلمة الحقيقي.
كما هو معروف الصهيونية ولدت ككلمة ومفهوم في نهاية القرن التاسع عشر، وجاءت للتعبير عن فكرة بسيطة في مضمونها: اخراج اليهود من دول الشتات وتجميعهم في ارض اسرائيل. كان ذلك حقا فكرة ثورية. ثورة جيوغرافية، تضمنت بالضرورة ايضا ثورة فكرية: تحويل اليهود من طائفة عرقية – دينية مشتتة في العالم الى "أمة" حديثة تجمعت في دولة واحدة، بروح القومية التي ازدادت في اوروبا. هذه كانت الصهيونية لا أكثر ولا أقل.
مع مرور السنين ظهر مفكرون كثيرون ألصقوا بالصهيونية اضافات كما خطر ببالهم. كل واحد وصهيونيته، يميني ويساري، محافظ واشتراكي، متدين وعلماني، غربي وشرقي. ولكن كل هذه الاضافات لم تغير الفكرة البسيطة لبنيامين زئيف هرتسل. فقد اعتقد هرتسل أن كل اليهود تقريبا سيحضرون الى البلاد، والباقي، هكذا اعتقد، ببساطة سيختفون من الواقع اليهودي وسيتحولون الى المان وفرنسيين وروس. لو أن هرتسل عرف يهود الشرق لكان سيفكر أنهم ايضا اذا لم يحضروا الى البلاد سيتحولون الى مغاربة حقيقيين واتراك وايرانيين. وجميعهم سيكفون عن كونهم يهودا وسيختفون من الأفق اليهودي.
حسب رأي هرتسل، مفهوم "صهيوني امريكي" هو نقيض مضحك بحد ذاته. يهودي امريكي يمكنه أن يكون صهيوني خلال بضعة اشهر، الى حين صعوده الى السفينة في طريقه الى فلسطين، ليس أكثر. هذه الصهيونية، الصهيونية الحقيقية لهرتسل، وصلت الى نهايتها عند اقامة دولة اسرائيل. الفكرة تحققت: مواطنو اسرائيل اصبحوا قومية، كما حلم. مثل كل القوميات هم يريدون أن تعيش دولتهم وتزدهر، في حين ان اليهود في ارجاء العالم استمروا في كونهم طائفة عرقية – دينية مثلما كانوا قبل ولادة الصهيونية.
ما هي ميزة هذه الطائفة؟ في العالم الحديث تبدو كمنتج شاذ. ولكنها في السابق كانت طبيعية تماما. في الامبراطورية البيزنطية كان السكان يتكونون من طوائف كهذه. كل طائفة كان لها دينها الخاص بها، وكل طائفة دينية كان لها حكم ذاتي اداري، سيطر عليه رجال الدين، الذين كانوا يخضعون للنظام المركزي. التقسيم بين الطوائف لم يكن تقسيم جغرافي، بل عرقي وديني. اليهود الذين تم سبيهم على أيدي نبوخذ نصر الى بابل لم يتحولوا الى بابليين بل ظلوا يهودا. وعندما اعادهم قورش الى القدس استمروا في كونهم يهودا. بعد الامبراطورية الفارسية جاءت الامبراطورية المكدونية والامبراطورية الرومانية والامبراطورية البيزنطية وبعدهم جاء المسلمون – عرب، مماليك واتراك – الى حين جاء البريطانيون الذين ورثنا قوانينهم.
حتى الوقت الحالي قوانيننا الشخصية مؤسسة على هذه القاعدة القديمة. اليهودي من تل ابيب يستطيع بدون صعوبة الزواج من حبيبته اليهودية في نيويورك. ولكنه لا يستطيع الزواج من مسيحية من القدس أو امرأة مسلمة من حيفا. على أحد الزوجين تغيير دينه أو عليهما الزواج خارج البلاد. هذا هو نظام الطوائف الذي عفى عليه الزمن، وهو مناقض للصهيونية بصورة بارزة.
اليهودي الامريكي هو امريكي، لا ينتمي الى القومية الاسرائيلية. يستطيع أن يرسل لنا التبرعات (حلت عليه البركة)، أو أن يزورنا في الصيف على حساب جهة "صهيونية" أيا كانت، لكنه امريكي. بنيامين نتنياهو يستطيع أن يعلن عن نفسه كزعيم كل اليهود، لكنه بالاجمال رئيس الحكومة القومية الاسرائيلية في ارض اسرائيل الصغيرة.
بالمناسبة، المواطنون العرب في اسرائيل كانوا يستطيعون أن يكونوا جزء من القومية الاسرائيلية، لو أنهم أرادوا ذلك. لقد كنت سأستقبلهم بذراع مفتوحة، لكن يبدو أنهم يفضلون أن يكونوا اقلية قومية في دولة اسرائيل. وأن يبقوا جزء من القومية الفلسطينية.
في ايامنا، وفي هذا الواقع، فان الماركة التجارية "صهيوني" هي زائدة ومزعجة وتشوش المنتجين وتستخدم كأداة في أيدي السياسيين الذين يسعون الى ابتزاز الاموال والتأييد السياسي من اليهود في العالم. إن هذه ماركة كاذبة تستخدم لاغراض الاحتيال.
اذا كان الامر كذلك، فكيف يمكنني أن أُعرف نفسي؟ مثل كل انسان عصري أنا مكون من عدة طبقات. قبل كل شيء أنا انسان وأخ لكل رجل وامرأة في الكون. وبعد ذلك أنا اسرائيلي، وبعد ذلك أنا من أصل يهودي (كان لي ذات مرة نقاش صاخب مع اريئيل شارون. قلت له إنني قبل كل شيء أنا اسرائيلي وبعد ذلك يهودي. وقد ادعى بحماسة أنه قبل كل شيء هو يهودي وفقط بعد ذلك هو يهودي).
باختصار، لقد قمنا بانشاء مبنى قومي سمي اسرائيل. ولهذا كانت حاجة الى السقالات. هذه السقالات سميت "صهيونية". الآن وقد قام البناء اصبحت السقالات زائدة، وحتى أنها مزعجة. ولكن في نظر كل انواع الاوغاد هي ملاذ قابل للاستخدام.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف